كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 3)

وصح لهم صفاء الأوقات تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض بمقتضى استعلاء أنوار إستعداداتهم منهم من كلم الله عند تجليه على طور قلبه وفي وادى سره ورفع بعضهم درجات بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الآلهية وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز فأوحى إلى عبده ما أوحى من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار والمظهر الأعظم عند ذوى الابصار وآتينا عيسى ابن مريم البينات والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب وأيدناه بروح القدس الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية ولو شاء الله ما أقتتل الذين جاءوا من بعدهم بسيوف الهوى ونبال الضلال من بعد ما جاءتهم من أنوار الفطرة وإرشاد الرسل الآيات الواضحات ولكن اختلفوا حسبما اقتضاه إستعدادهم الأزلى فمنهم من آمن بما جاء به الوحى ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتلوا عن اختلاف بأن يتحد إستعدادهم ولكن الله يفعل ما يريد ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا الاختلاف يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم ببذل الأرواح وإرشاد العباد من قبل أن يأتي يوم القيامة الكبرى لا بيع فيه ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل النشأة ولا خلة لظهور الحقائق ولا شفاعة للتجلى الجلالي ولكافرون هم الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها وما ظلمناهم إذ لم نقض عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول الله لا إله في الوجود العلمى إلا هو الحى الذي حياته عين ذاته وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته القيوم الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به وقيل : الحي الذي ألبس حياته أسرار الموحدين فوحدوا به والقيوم الذي ربى بتجلى الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه
لا تأخذه سنة ولا نوم بيان لقيوميته وإشارة إلى أن حياته عين ذاته له ما في سموات الأرواح وأرض الأشباح فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه إذ كلهم له ومنه واليه وبه يعلم ما بين أيديهم من الخطرات وما خلفهم من العثرات أو ما بين أيديهم من المقامات وما خلفهم من الحالات أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية إستعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك ولا يحيطون بشئ من معلوماته التى هى مظاهر أسمائه إلا بما شاء كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشئ من معلوماته فأي طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أنى لخفاش الفهم أن يفتح عينه في شمس هاتيك الذات ! وسع كرسيه الذي هى قلب العارف السموات والأرض لأنه معدن العلوم الآلهية والعلم اللدنى الذي لا نهاية له ولا حد ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي : لو وقع العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به وقيل : كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت ولا يؤده ولا يثقله حفظهما في ذلك الكرسي لأنهما غير موجودين بدونه وهو العلى الشأن الذي لا تقيده الأكوان العظم الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لإ طلاقه حتى عن قيد الإطلاق لا إكراه في الدين قيل : إن هذه إلى قوله سبحانه : خالدون من بقية آية الكرسي والحق أنها ليست منها بل هي كملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله والجملة على هذا خبر بإعتبار

الصفحة 12