كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 8)

اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت واسناد الابتغاء المنكر لنفسه الشريفة صلى الله عليه و سلم لا إلى المشركين كما في قوله سبحانه : أفغير دين الله يبغون مع أنهم الباغون لاظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم أجعل بيننا وبينك حكما و غير مفعول ابتغي و حكما حال منه وقيل : تمييز لما في غير من الابهام كقولهم : إن لنا إبلا غيرها وقيل : مفعول له وأولى المفعول همزة الاستفهام دون الفعل لأن الانكار إنما هو في ابتغاء غير الله تعالى حكما لا في مطلق الابتغاء فكان أولى بالتقديم وأهم وقيل : تقديمه للتخصيص وحمل على أن المراد تخصيص الانكار لا إنكار التخصيص وقيل في تقديمه ايماء إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضى بكونه حكما
وجوز أن يكون غير حالا من حكما وحكما مفعول ابتغي والتقديم لكونه مصب الانكار والحكم يقال للواحد والجمع كما قال الراغب وصرح هو وغيره بأنه أبلغ من الحاكم لا مساو له كما نقل الواحدي عن أهل اللغة وعلل بأنه صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها ولذا لا يوصف به إلا العادل أو من تكرر منه الحكم
وهو الذي أنزل اليكم الكتاب جملة حالية مؤكدة للانكار ونسبة الانزال اليهم خاصة مع أن مقتضى المهام إظهار تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بايهام قوة نسبته اليهم وقيل : لأن ذلك أوفق بصدرية الآية بناء على أن المراد بها الانكار عليهم وان عبر بما عبد إظهارا للنصفة ونظير ذلك قوله تعالى : وما لا أعبد الذي فطرني واليه ترجعون
ومعنى الآية عند بعض المحققين أغيره تعالى أبتغي حكما والحال أنه هو الذي أنزل اليكم الكتاب وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تدرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب
مفصلا أي مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الاحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والابهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم ثم قال : وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله وأما أن يكون لاعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا انتهى
ولا يخفى أن ملاحظة الاعجاز أمر مطلوب على تقدير كون الآية مرتبطة معنى بقوله سبحانه وأقسموا بالله الآية وبيان ذلك على ما ذكره الامام أنه سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أتتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه جل شأنه بأنه لا فائدة في آظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته عليه الصلاة و السلام قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه ثم نبه على حصول الدليل من هذ الآية بوجهين الأول أنه تعالى أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فيكون ظهور هذا المعجز دليلا على أنه تعالى قد حكم بنبوته فمعنى الآية قل يا محمد : إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله سبحانه حكما فان كل أحد يقول : إن ذلك غير جائز ثم قل : إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغغ إلى حد الاعجاز الثاني اشتماله التوراة والانجيل على الآيات الدالة على إنه صلى الله عليه و سلم رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهذا هو المراد من الآية بعد انتهى ووجه بعضهم

الصفحة 8