كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 14)

الحكمة وتجري به السنة الإلهية والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هم ومنزلتهم في الحقائق منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة والحكمة أصلا فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام من أفراد كل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة وما كانوا إذا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل في الآيات قبل وحال حائل الحكمة بينهم استئصالهم لتعلق العلم بازديادهم عذابا وبأيمان بعض ذراريهم ونظم إيمان بعضهم في سمط الحكمة يأباه تماديهم في الكفر والعناد فما كانوا الخ جواب لشرط مقدر أي ولو أنزلناهم ما كانوا الخ
واعترض بأن الأوفق بقوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا أن يكون الوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به لمثل غرضهم كونهم بصور الرجال وذلك ليس من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يكون لهم أصلا فلا يتم كلامه وفيه بحث كما لا يخفى وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد تفسير الحق هنا بالرسالة والعذاب ووجهت الآية على ذلك نحو هذا التوجيه فقيل : المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالرسالة والعذاب ولو نزلناهم عليهم ما كانوا منظرين لأن التنزيل عليهم بالرسالة مما لايكاد فتعين أن يكون التنزيل بالعذاب وذكر الماوردي الاقتصار على الرسالة وروي عن الحسن الاقتصار على العذاب وفي معنى ذلك ما روي عن ابن عباس من أن المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالحق الذي هو الموت الذي لا يقع فيه تقديم ولا تأخير
وقال ابن عطية : الحق ما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده والمعنى ما ننزل الملائكة إلا بالحق واجب من وحي ومنفعة لا باقتراحكم وأيضا لو نزلنا لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب لأن عادتنا إهلاك الأمم المقترحة إذا أتيناهم ما اقترحوه وفيه ما فيه وقال الزمخشري المعنى ألا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه و سلم لأنهم حينئذ مصدقون اضطرارا وهو مبني على أن الإنزال بصورهم الحقيقية ومنه أخذ صاحب القيل المذكور أو لا قيله والبيضاوي جعل المنافي للحكمة أنزالهم بصور البشر حيث قال : لا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا
وقال بعضهم : أريد إن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفرة أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا وتعقب الأقوال الثلاثة البعض من المحققين بأنه مع إخلال كل من ذلك بفظيعة الآتي لا يلزم من فرض وقوع شيء من ذلك تعجيل العذاب الذي يفيده قوله سبحانه : وما كانوا إذا منظرين ومن الناس من تكلف لتوجيه اللزوم على بعض هذه الأقوال بما تكلف واختار بعضهم كون المراد من الحق الهلاك والجملة بعد جواب سؤال مقدر فكأنه لما قيل : ما ننزل الملائكة إلا بالهلاك إذ هو الذي يحق لأمثالهم من المعاندين قيل : فليكن ذلك فأجيب بأنه لو فعلنا ما كانوا منظرين أي وهم قد كانوا منظرين كما أجمل فيما قبل من قوله سبحانه : ذرهم يأكلون ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وحاصل الجواب حينئذ على ما قيل أن ما طلبوه من الإتيان بالملائكة ليشهدوا بصدق النبي صلى الله عليه و سلم مما لا يكون لهم لأن ما اقتضته حكمتنا وجرت به عادتنا مع أمثالهم ليس إلا التنزيل بالهلاك دون الشهادة فإن الحكمة لا تقتضيه والعادة لم تجر فيه لأنه إن كان والملائكة بصورهم

الصفحة 14