كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 14)

من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر للتخلية والإباحة وأياما فمن للتبعيض
وقال الإمام : رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء ظل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد تكون تلم الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث بجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل الترنجبين فإنه ظل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض البلدان وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى النحل حتى تلتقطه من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت به إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها فالمجتمع من ذلك هو العسل ومن الناس من يقول : إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم أنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ثم تقيئه والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة للإستقراء فإن طبيعة الترنجبين قربية من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه ظل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا ههنا وأيضا فنحن نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل حتى إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا لها بقية منه لغذائها وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية أه وأنت تعلم أن ظاهر كلي يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييدا له من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة فقد ذكر بعض أجلة الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل نعم لتلك المشابهة يطلق عليه اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لاطل الندا كما زعم وإن قالوا : هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول بفارس ويجمع كالمن ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنيط أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكنه أغلظ والأمر في مشاهدة تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائميا وينقل عن الطيور التي تمكن شتاء التغذي بالرجيع ويؤيد المشهور ما روي عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه في تحقير الدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل وجاء عنه كرم الله تعالى وجهه أيضا أما العسل فونيم ذباب وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال المعري : والنحل يجني المر من زهر الربا فيعود شهدا في طريق رضا به وقال الحريري : تقول هذا محجاج النحل تمدحه وإن ترد ذمه قيء الزنابير وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيرا حملها لأوراق الأزهار بفمها إلى بيوتها وهو مما يستأنس به للأكل وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضا ما يؤيده فاسلكي سبل ربك أي طرقه سبحانه راجعة إلى بيوتك بعد الأكل فالمراد بالسبل مسالكها في العود ويحكي أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة للمرعى ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها وفي إضافة السبل إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيء لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها وقيل : المراد من السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه وحينئذ فمعنى كلي اقصدي الأكل وقيل : السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل وقيل : مجاز عن طرق إحالة الغذاء عسلا و اسلكي متعد من

الصفحة 183