كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 15)

إلهية اقتضت ذلك وأما الحضور في الجهاد مفقد روى ابن بشكوال في كتاب المستغيثين بالله تعالى عن عبد الله بن المبارك أنه قال : كنت في غزوة فوقع فرسي ميتا فرأيت رجلا حسن الوجه طيب الرائحة قال : أتحب أن تركب فرسك قلت : نعم فوضع يده على جهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره وقال : أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله وبعظمة عظمة الله وبجلال جلال الله وبقدرة قدرة الله وبسلطان سلطان الله وبلا إله إلا الله وبما جرى به القلم من عند الله وبلا حول ولا قوة إلا بالله إلا انصرفت فوثب الفرس قائما بإذن الله تعالى وأخذ الرجل بركابي وقال : اركب فركبت ولحقت بأصحابي فلما كان من غداة غد وظهرنا على العدو فإذا هو بين أيدينا فقلت : ألست صاحبي بالأمس قال : بلا فقلت : سألتك بالله تعالى من أنت فوثب قائما فاهتزت الأرض تحته خضراء فقال : أنا الخضر فهذا صريح في أنه قد يحضر بعض المعارك وأما قوله اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فمعناه لا تعبد على وجه الظهور والغلبة وقوة الأمة وإلا فكم من مؤمن كان بالمدينة وغيرها ولم يحضر بدرا ولا يخفى أن نظم الخضر عليه السلام في سلك أويس القرني والنجاشي وأضرابهما ممن لم يمكنه الإتيان إليه بعيد عن الإنصاف وإن لم نقل بوجوب الاتيان عليه عليه السلام وكيف يقول منصف بإمامته لجميع الأنبياء واقتداء جميعهم به ليلة المعراج ولا يرى لزوم الاتيان على الخضر عليه السلام والاجتماع معه مع أنه لا مانع له من ذلك بحسب الظاهر ومتى زعم أحد أن نسبته إلى نبينا كنسبته إلى موسى عليه السلام فليجدد إسلامه ودعوى إسلامه أنه كان يأتي ويتعلم خفية لعدم أمره بذلك علانية لحكمة إلهية مما لم يقم عليها الدليل على أنه لو كان كذلك لذكره ولو مرة وأين الدليل على الذكر وأيضا لا تظهر الحكمة في منعه عن الاتيان مرة أو مرتين على نحو إتيان جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلب رضي الله عنه وإن قيل إن هذه الدعوة مجرد احتمال قيل لا يلتفت إلى مثله إلا عند الضرورة ولا تتحقق إلا بعد تحقق وجوده إذ ذاك بالدليل ووجوده كوجوده عندنا وأما ما روي عن ابن المبارك فلا نسلم ثبوته عنه وأنت إذا أمعنت النظر في ألفاظ القصة استبعدت صحتها ومن أنصف يعلم أن حبره عليه السلام يوم قال النبي لسعد رضي الله تعالى عنه : إرم فداك أبي وأمي كان أهم من حضوره مع ابن المبارك واحتمال أنه حضر ولم يره أحد شبه شيء بالسفسطة وأما ما ذكروه في معنى الحديث فبقائل أن يقول : إنه بعيد فمن الظاهر منه نفي أن يعبد سبحانه إن أهلك تلك العصابة مطلقا على معنى أنهم إن أهلكوا والإسلام غض ارتد الباقون ولم يكد يؤمن أحد بعد فلا يعبده سبحانه أحد من البشر في الأرض حينئذ وقد لا يوسط حديث الارتداد بأن يكون المعنى اللهم إن تهلك هذه العصابة الذين هم تاج رأس الإسلام استولى الكفار على سائر المسلمين بعدهم فأهلكوهم فلا يعبدك أحد من البشر وأيا ما كان فالاستدلال بالحديث على عدم وجود الخضر عليه السلام له وجه فإن أجابوا عنه بأن المراد نفي أن يشاهده من يعبده تعالى بعد والخضر عليه السلام لا يشاهد ورد عليه ما تقدم وأجابوا عن الاستدلال بقوله تعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد بأن المراد من الخلد الدوام الأبدي والقائلون بوجوده اليوم لا يقولون بتأبيده بل منهم من يقول : إنه يقاتل الدجال ويموت ومنهم من يقول : إنه يموت زمان رفع القرآن ومنهم من يقول : إنه يموت في آخر الزمان ومراده أحد هذين الأمرين أو ما يقاربهما
وتعقب بأن الخلد بمعنى الخلود وهو على ما يقتضيه ظاهر قوله تعالى خالدين فيها أبدا حقيقة في

الصفحة 324