كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 15)

في الأفراد والجزيئات فكيف يستفاد من التنكير أن الاسراء كان في بعض من أجزاء الليل فالصواب أن تنكيره لدفع توهم أن الاسراء كان في ليال أو لافادة تعظيمه كما هو المناسب للسياق والسباق أي ليلا أي ليل دنا فيه المحب إلى المحبوب وفاز في مقام الشهود بالمطلوب وأجاب عن ذلك بعض الكاملين بما لا يخفى نقصه وقال بعض المحققين : إن ما ذكر قد نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز ولا يرد عليه الاعتراض ابتداء
وتحقيقه على ما صرح به الفاضل اليمني نقلا عن سيبويه وابن مالك أن الليل والنهار إذا عرفا كانا معيارا لتعميم وظرفا محدودا فلا تقول صحبته الليلة وأنت تريد ساعة منها إلا أن تقصد المبالغة كما تقول أتاني أهل الدنيا لناس منهم بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك فلما عدل عن تعريفه هنا علم أنه لم يقصد استغراق السرى له وهذا هو المراد من البعضية المذكورة ولا حاجة إلى جعل الليل مجازا عن بعضه كما إنك إذا قلت جلست في السوق وجلوسك في بعض أماكنه لا يكون فيه السوق مجازا كما لا يخفى وقد أشار إلى هذا المدقق في الكشف وقيل : المراد بتنكيره أنه وقع في وسطه ومعظمه كما يقال جاءني فلان بليل أي في معظم ظلمته فيفيد البعضية أيضا وينافيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث وزعم أنه ذكر ليلا للتأكيد أو تجريد الاسراء وإرادة مطلق السير منه ناشيء من قلة البضاعة كما لا يخفى وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان حكمة كون الاسراء ليلا من المسجد الحرام
الظاهر أن المراد به المسجد المشهور بين الخاص والعام بعينه وكان إذ ذاك في الحجر منه فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال : قال رسول الله بينا أنا في الحجر وفي رواية في الحطيم بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه فاستخرج قلبي فغسله ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه الحديث وفي بعض الروايات أنه جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام وهو مضطجع في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر فاحتملته الملائكة عليهم السلام وجاؤا به إلى زمزم فألقوه على ظهره وشق جبريل صدره من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه بغير آلة ولا سيلان دم ولا وجود ألم ثم قال لميكائيل : ائتني بطست من ماء زمزم فأتاه به فاستخرج قلبه الشريف وغسله ثلاث مرات ثم أعاده إلى مكانه وملأه إيمانا وحكمة وختم عليه ثم خرج إلى باب المسجد فإذا بالبراق مسرجا ملجما فركبه الخبر ويعلم منه الجمع بين ما ذكر من أنه عليه الصلاة و السلام كان إذ ذاك في الحجر وما قيل إنه كان بين زمزم والمقام وقيل : المراد به الحرم وأطلق عليه لاحاطته به فهو مجاز بعلاقة المجاورة الحسية والإحاطة أو لأن الحرم كله محل للسجود ومحرم ليس يحل فهو حقيقة لغوية والنكتة في هذا التعبير مطابقة المبدأ المنتهي
وكان إذ ذاك في دار فاختة أم هانيء بنت أبي طالب فقد أخرج النسائي عن ابن عباس وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير من حديثها أنه كان نائما في بيتها بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة عليها وقال مثل لي النبيون فصليت بهم ثم خرج إلى المسجد وأخبر به قريشا فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد أناس ممن آمن به عليه الصلاة

الصفحة 5