كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 16)
فأي فائدة للأمر الذي جاء به ملك الإلهام لهذا المدعي فإن قال : لم يجئني ملك الإلهام بذلك وإنما أمرني الله تعالى بلا واسطة قلنا : لا يصدق في مثل ذلك وهو تلبيس من النفس فإن ادعى أن الله سبحانه كلمه كما كلم موسى عليه السلام فلا قائل به ثم إنه تعالى لو كلمه ما كان يلقى إليه في كلامه إلا علوما وأخبارا لا أحكاما وشرعا و لايأمره أصلا انتهى
وقد صرح الإمام الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره العزيز في المكتوبات في مواضع عديدة بأن الإلهام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ويعلم من ذلك أنه لا مخالفة بين الشريعة والحقيقة والظاهر والباطن وكلامه قدس سره في المكتوبات طافح بذلك ففي المكتوب الثالث والأربعين من الجلد الأول أن قوما مالوا إلى الإلحاد والزندقة يتخيلون أن المقصود الأصلي وراء الشريعة حاشا وكلا ثم حاشا وكلا نعوذ بالله سبحانه من هذا الإعتقاد السوء فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة وكل ما خالف الشريعة مردود وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة وقال في أثناء المكتوب الحادي والأربعين من الجلد الأول أيضا في مبحث الشريعة والطريقة والحقيقة : مثلا عدم نطق اللسان بالكذب شريعة ونفي خاطر الكذب عن القلب إن كان بالتكلف والتعمل فهو طريقة وإن تيسر بلا تكلف فهو حقيقة ففي الجملة الباطن الذي هو الطريقة والحقيقة مكمل الظاهر الذي هو الشريعة فالسالكون سبيل الطريقة والحقيقة إن ظهر منهم في أثناء الطريق أمور ظاهرها مخالف للشريعة ومناف لها فهو من سكر الوقت وغلبة الحال فإذا تجاوزوا ذلك المقام ورجعوا إلى الصحو ارتفعت تلك المنافاة بالكلية وصارت تلك العلوم المضادة بتمامها هباء منثورا
وقال نفعنا الله تعالى بعلومه في أثناء المكتوب السادس والثلاثين من الجلد الأول أيضا : للشريعة ثلاثة أجزاء علم وعمل وإخلاص فما لم تتحقق هذه الأجزاء لم تتحقق الشريعة وإذا تحققت الشريعة حصل رضا الحق سبحانه وتعالى وهو فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية ورضوان من الله أكبر فالشريعة متكفلة بجمع السعادات ولم يبق مطلب وراء الشريعة فالطريقة والحقيقة اللتان امتاز بهما الصوفية كلتاهما خادمتان للشريعة في تكميل الجزء الثالث الذي هو الإخلاص فالمقصود منها تكميل الشريعة لا أمر آخر وراء ذلك إلى آخر ما قال وقال عليه الرحمة في أثناء المكتوب التاسع والعشرين من الجلد المذكور بعد تحقيق كثير : فتقرر أن طريق الوصول إلى درجات القرب الإلهي جل شأنه سواء كان قرب النبوة أو قرب الولاية منحصر في طريق الشريعة التي دعا إليها رسول الله وصار مأمورا بها في آية قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وآية قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله تدل على ذلك أيضا وكل طريق سوى هذا الطريق ضلال ومنحرف عن المطلوب الحقيقي وكل طريقة ردتها الشريعة فهي زندقة وشاهد ذلك آية وأن هذا صراطي مستقيما وآية فماذا بعد الحق إلا الضلال وآية ومن يبتغ غير الإسلام دينا وحديث خط لنا النبي الخبر وحديث كل بدعة ضلالة وأحاديث أخر إلى آخر ما قال عليه رحمة الملك المتعال وقال قدس سره في معارف الصوفية : اعلم أن معارف الصوفية وعلومهم في نهاية سيرهم وسلوكهم إنما هي علوم الشريعة لا أنها علوم أخر غير علوم الشريعة نعم يظهر في أثناء الطريق علوم ومعارف كثيرة ولكن لا بد من العبور عنها ففي نهاية النهايات علومهم علوم العلماء وهي علوم الشريعة والفرق