كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 17)

الآيات ليس للوقوف وتحصيل العلم بالمسئول عنه لأمر آخر والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وأصل الذكر أهل الكتاب كما روي عن الحسن وقتادة وغيرهما وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أي إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام لتزول شبهتكم أمروا بذلك لأن أخبار الجم الغفير يفيد العلم في مثل ذلك لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته صلى الله عليه و سلم ويشاورونهم في أمره عليه الصلاة و السلام ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبي صلى الله عليه و سلم ما لا يخفى وعن ابن زيد أن أهل الذكر هم أهل القرآن ورده ابن عطية بأنهم كانوا خصومهم فكيف يؤمرون بسؤالهم ويرد ذلك على ما زعمته الإمامية من أنهم آله صلى الله عليه و سلم وقد تقدم الكلام في ذلك
وما جعلناهم جسدا بيان لكون الرسل عليهم السلام أسوة لسائر أفراد الجنس في أحكام الطبيعة البشرية والجسد على ما في القاموس جسم الإنس والجن والملك وقال الراغب : هو كالجسم إلا أنه أخص منه قال الخليل : لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه وأيضا فإن الجسد يقال لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء والماء وقوله تعالى وما جعلناهم جسدا الخ يشهد لما قاله الخليل انتهى وقيل : هو جسم ذو تركيب وظاهره أنه أعم من الحيوان ومنهم خصه به وقال بعضهم : هو في الأصل مصدر جسد الدم يجسد أي التصق وأطلق على الجسم المركب لأنه ذو أجزاء ملتصق بعضها ببعض ثم الظاهر أن الذي يقول بتخصيصه بحيث لا يشمل غير العاقل من الحيوان مثلا غاية ما يدعى أن ذلك بحسب أصل وضعه ولا يقول بعدم جواز تعميمه بعد ذلك فلا تغفل ونصبه إما على أنه مفعول ثان للجعل والمراد تصييره كذلك ابتداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل وأما حال من الضمير والجعل إبداعي وأفراده لا عادة الجنس الشامل للكثير أو لأنه في الأصل على ما سمعت مصدر وهو يطلق على الواحد المذكر وغيره وقيل : لإرادة الإستغراق الإفرادي في الضمير أي جعلنا كل واحد منهم وقيل : هو بتقدير مضاف أي ذوي جسد وفي التسهيل أنه يستغنى بتثنية المضاف وجمعه عن تثنية المضاف إليه وجمعه في الأعلام وكذا ما ليس فيه لبس من أسماء الأجناس
وقوله تعالى لا يأكلون الطعام صفة جسدا أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الغذاء بل محتاجا إليه وما كانوا خالدين
8
- أي باقين أبدا وجوز أن يكون الخلود بمعنى المكث المديد واختير الأول لأن الجملة مقررة لما قبلها من كون الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام بشرا لا ملائكة كما يقتضيه اعتقاد المشركين الفاسد وزعمهم الكاسد والظاهر هم يعتقدون أيضا في الملائكة عليهم السلام الأبدية كاعتقاد الفلاسفة فيهم ذلك إلا أنهم يسمونهم عقولا مجردة وحاصل المعنى جعلناهم أجسادا متغذية صائرة إلى الموت بالآخرة حسب آجالهم ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون ولا يموتون حسبما تزعمون وقيل : الجملة رد على قولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام الخ والأول أولى نعم هي مع كونها مقررة لما قبلها فيها رد على ذلك وفي إيثار وما كانوا على وما جعلناهم تنبيه على أن عدم الخلود والبقاء من توابع جبلتهم في هذه النشأة التي أشير إليها بقوله تعالى وما جعلناهم جسدا الخ لا بالجعل المستأنف بل إذا نظرت إلى سائر المركبات من العناصر المتضادة رأيت بقاءها سويعة أمرا غريبا وانتهضت إلى طلب العلة لذلك ومن هنا قيل :

الصفحة 13