كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 17)

ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعا في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب
ويرد على قوله : إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى : إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا قال : كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك وقد ذكروا أن كان في ذلك للإستمرار
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال : ما جاء جبريل عليه السلام بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه و سلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي فقد أخرج ابن جرير وابن مردوية من طريق العوفي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلا منها الشفاعة ترتجي فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجودا مع عدم ترتب أثره عليه والقول بأن جبريل عليه السلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناء على ما أخرج ابن مردوية عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد : كان النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يلقى الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلا فإن المراد من قوله : فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقى في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصدا ومما ذكر في هذا الإعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الإعتراض وهو ظاهر وقد يقال : إن إعجاز القرآن معلوم له صلى الله عليه و سلم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري بل قال القاضي : إن كل بليغ بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوى البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول عليه الصلاة و السلام ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلا ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في الروايات حروفه بقدر سورة الكوثر بل أزيد إن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وأنهن لهن الغرانيق العلا وأن شفاعتهن لهي التي ترتجي الوراد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب
وجاء في رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي : هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجي ترتضي ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما رفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز
فإن كان معجزا لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذا سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه عليه الصلاة و السلام قصور بلاغته من بلاغة شيء من آيات القرآن سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قرآن حتى ينبه جبريل عليه السلام لا سيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات وما زجت لحمه ودمه والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على ما سمعه إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له إن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله : لأن النفس مختلف وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي أيضا رسيما على قول جماعة : إن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى : فليأتوا بحديث مثله والقول بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب
وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لا بد من حمل الكلام على الإستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلاء عارفون بالغث والسمين من الخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودا وما ألقى الشيطان إلى أوليائه معدودا وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول ولعمري أن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم نسخه سبحانه وتعالى لا سيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القرآن : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكم حميد والمراد بالباطل ما كان باطلا في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم به تأويله بأحد التأويلين والمراد بلا يأتيه استمرار النفي لا نفي الإستمرار
وقال عز و جل : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فجيء بالجملة الإسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقة إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الإعتناء بأمر القرآن ما فيه
وقد استدل بالآية من استدل على حفز القرآن من الزيادة والنقص وما علينا ما قيل في ذلك وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ ولم يبق إلا رمانا يسيرا لا يخلو عن نظر والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة لكنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية على ما يقتضيه ذلك الإعتناء ثم إن قيل : بما روي عن الضحاك من أن سورة الحج كلها مدنية لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرآنا في اعتقاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين زمانا طويلا والقول بذلك من الشناعة بمكان وقال جل وعلا : إن هو إلا وحي يوحى والظاهر أن الضمير لما ينطق به عليه الصلاة و السلام مما يتعلق بالدين ومن هنا

الصفحة 182