كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 17)

يتوجه الإعتراض على الكافر بكفره حيث أنه من توابع استعداده في ثبوته الغير المعجول وقد يشير إلى ذلك قوله سبحانه وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقوله عليه الصلاة و السلام فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وهذا وإن كان مما فيه قيل وقال ونزاع وجدال إلا أنه مما ارتضاه كثير من المحققين والأجلة العارفين وقال البعض : إن ذلك استئناف ببيان أنه تعالى لقوة عظمته الباهرة وعزة سلطته القاهرة بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسأله عما يفعل من أفعاله أثر بيان أن ليس له شريك في الألوهية وضمير هم للعباد أي والعباد يسئلون عما يفعلون نقيرا وقمطيرا لأنهم مملوكون له تعالى مستعبدون وفي هذا وعيد للكفرة والظاهر أن المراد عموم النفي جميع الأزمان أي لا يسئل سبحانه في وقت من الأوقات عما يفعل وخص ذلك الزجاج بيوم القيامة والأول أولى وإن كان أمر الوعيد على هذا أظهر واستدل بالآية على أن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض والغايات فلا يقال فعل كذا لكذا إذ لو كانت معللة لكان للعبد أن يسأل فيقول لم فعل وإلى ذلك ذهب الأشاعرة ولهم عليه أدلة عقلية أيضا وأولوا ما ظاهرة التعليل بالحمل على المجاز أو جعل الأداة فيه للعافية ومذهب الماتريدية كما في شرح المقاصد والمعتزلة أنها تعلل بذلك وإليه ذهب الحنابلة كما قال الطوفي وغيره
وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيم في كتاب شفاء العليل : إن الله سبحانه وتعالى حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل وقد دل كلامه تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم على هذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها وساق اثنين وعشرين نوعا في بضعة عشرة ورقة ثم قال : لو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله تعالى في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع ثم قال : وهل إبطال الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال الشرع جمله وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد ثم قال : والحق الذي لا يجوز غيره هو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل بأسباب وحكم وغايات محمودة وقد أودع العالم من القوى والغرائز ما به قام الخلق والأمر وهذا قول جمهور أهل الإسلام وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة أه
والظاهر أن ابن القيم وأضرابه من أهل السنة القائلين بتعليل أفعاله تعالى لا يجعلون كالأشاعرة المخصص لأحد الضدين بالوقوع محض تعلق الإرادة بالمعنى المشهور ومحققو المعتزلة كأبي الحسن والنظام والجاحظ والعلاف وأبي القاسم البلخي وغيرهم يقولون : إن العلم بترتب النفع على إيجاد النافع هو المخصص للنافع بالوقوع ويسمون ذلك العلم بالداعي وهو الإرادة عندهم وأورد عليهم أن الواجب تعالى موجب في تعلق علمه سبحانه بجميع المعلومات فلو كان المخصص الموجب للوقوع هو العلم بالنفع كان ذلك المخصص لازما لذاته تعالى فيكون فعله سبحانه واجبا لأمر خارج ضروري للفاعل وهو ينافي الإختيار بالمعنى الأخص قطعا فلا يكون الواجب مختارا بهذا المعنى بل يؤل إلى ما ذهب إليه الفلاسفة من الإختيار المجامع للإيجاب ولا يرد ذلك على القائلين بأن المخصص هو تعلق الإرادة الأزلية لأن ذلك التعلق غير لازم لذات الواجب تعالى وإن كان أزليا دائما لا مكان تعلقها بالضد الآخر بدل الضد الواقع نعم يرد عليهم ما يصعب التفصي عنه مما

الصفحة 29