كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 17)

هي في أنفسها ومع قطع إضافتها إلى الواجب تستحق العدم ولا يعقل أن يكون وجود السماوات والأرض مع أمكانهما الضروري عن غير علة وأما ما ذهب إليه ذيمقرطيس من أن وجود العالم إنما كان بالإتفاق وذلك لأن مباديه أجرام صغار لا تتجزأ لصلابتها وهي مبثوثة في خلاء غير متناه وهي متشاكلة الطباع مختلفة الأشكال دائمة الحركة فاتفق أن تضامت جملة منها واجتمعت على هيئة مخصوصة فتكون منها هذا العالم فضرب من الهذيان ووافقه عليه على ما قيل أبناذقلس لكن الأول زعم أن تكون الحيوان والنبات ليس بالإتفاق وهذا زعم أن تكون الأجرام الأسطقسية بالإتفاق أيضا إلا أن ما اتفق إن كان ذا هيئة اجتماعية على وجه يصلح للبقاء والنسل بقي وما اتفق إن لم يكون كذلك لم يبق وهذا الهذيان بعيد من هذا الرجل فإنهم ذكروا أنه من رؤساء يونان كان في زمن داود عليه السلام وتلقى العلم منه واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة ثم إن وجودهما عن العلمة حادث بل العالم المحسوس منه وغيره حادث حدوثا زمانيا بإجماع المسلمين وما يتوهم من بعض عبارات بعض الصوفية من أنه حادث بالذات قديم بالزمان مصروف عن ظاهره إذ هم أجل من أن يقولوا به لما أنه كفر والفلاسفة في هذه المسألة على ثلاثة آراء فجماعة من الأوائل الذين هم أساطين من الملطية وساميا صاروا إلى القول بحدوث موجودات العالم مباديها وبسائطها ومركباتها وطائفة من الأتينينية وأصحاب الرواق صاروا إلى قدم مباديها من العقل والنفس والمفارقات والبسائط دون المتوسطات والمركبات فإن المبادي عندهم فوق الدهر والزمان فلا يتحقق فيها حدوث زماني بخلاف المركبات التي هي تحت الدهر والزمان ومنعوا كون الحركات سرمدية ومذهب أرسطو ومن تابعه من تلامذته أن العالم قديم وأن الحركات الدورية سرمدية وهذا بناء على المشهور عنه وإلا فقد ذكر في الأسفار أن أساطين الحكمة المعتبرين عند الطائفة ثمانية ثلاثة من الملطيين ثالس وانكسيمائس واغاثاذيمون وخمسة من اليونانيين أبناذقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وكلهم قائلون بما قال به الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من حدوث العالم بجميع جواهره وأعراضه وأفلاكه وأملاكه وبسائطه ومركباته ونقل عن كل كلمات تؤيد ذلك وكذا نقل عن غير أولئك من الفلاسفة وأطال الكلام في هذا المقام ولو لا مخافة السآمة لنقلت ذلك ولعلى أنقل شيئا منه في محله الأليق به إن شاء الله تعالى وجاء عن ابن عباس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وابن جبير أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وقال كعب : خلق الله السماوات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحا فتوسطهما ففتقهما وعن الحسن خلق الله تعالى الأرض في موضع بين المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتصق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانتا رتقا ففتقناهما فجعل سبع سماوات وكذلك الأرض كانت رتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين والمراد من العلم على هذه الأقوال التمكن منه أيضا إلا أن ذلك ليس بطريق النظر بل بالإستفسار من علماء أهل الكتاب الذين كانوا يخالطونهم ويقبلون أقوالهم وقيل بذلك أو بمطالعة الكتب السماوية ويدخل فيها القرآن وإن لم يقبلوه لكونه معجزة في نفسه وفي ذلك دغدغة لا تخفى
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمران رجلا أتاه فسأله عن الآية فقال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعالى فأخبرني وكان ابن عباس فذهب إليه فسأله

الصفحة 35