كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 17)

ما يأتيهم من ذكر من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم أكمل تذكير وتبين لهم الأمر أتم تبيين كأنها نفس الذكر و من سيف خطيب وما بعدها مرفوع المحل على الفاعلية والقول بأنها تبعيضية بعيد و من في قوله تعالى من ربهم لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد الشنيع محدث بالجر صفة لذكر
وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه صفة له أيضا على المحل وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالنصب على أنه حال منه بناء على وصفه بقوله تعالى من ربهم وقوله سبحانه إلا استمعوه استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور على ما قيل وقال نجم الأئمة الرضي : إذا كان الماضي بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو وقد أكثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب على الأسماء فهو بتأويل إلا مكرما فصار كالمضارع المثبت
وجوز أن يكون حالا من المفعول لأنه حال لضميره أيضا والمعنى لا يأباه وهو خلاف الظاهر وأبعد من ذلك ما قيل إنه يحتمل أن يكون صفة لذكر وكلمة إلا وإلا كانت مانعة عند الجمهور إذ التفريغ في الصفات غير جائز عندهم إلا أنه يجوز أن يقدر ذكر آخر بعد إلا فتجعل هذه الجملة صفة له ويكون ذلك بمنزلة وصف المذكور أي ما يأتيهم من ذكر إلا ذكر استمعوه وقوله تعالى وهم يلعبون
2
- حال من فاعل استمعوه وقوله سبحانه لاهية قلوبهم إما حال أخرى منه فتكون مترادفة أو حال من واو يلعبون فتكون متداخلة والمعنى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه أو لاعبين به حال كون قلوبهم لاهية عنه
وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى لاهية بالرفع على أنه خبر بعد خبر لهم والسر في اختلاف الخبرين لا يخفى و لاهية من لهى عن الشيء بالكسر لهيا ولهيانا إذا سلا عنه وترك ذكره وأضرب عنه كما في الصحاح وفي الكشاف هي من لهي عنه إذا ذهل وغفل وحيث اعتبر في الغفلة فيما مر أن لا يكون للغافل شعور بالمغفول عنه أصلا بأن لا يخطر بباله ولا يقرع سمعه أشكل وصف قلوبهم بالغفة بعد سماع الآيات إذ قد زالت عنهم بذلك وحصل لهم الشعور وإن لم يوقفوا للإيمان وبقوا في غيابة الخزي والخذلان
وأجيب بأن الوصف بذلك على تنزيل شعورهم لعدم انتفاعهم به منزلة العدم نظير ما قيل في قوله تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون وأنت تعلم أنه لا بأس أن يراد من الغفلة المذكورة في تفسير لهي الترك والإعراض على ما تفصح عنه عبارة الصحاح وإنما لم يجعل ذلك من اللهو بمعنى اللعب على ما هو المشهور لأن تعقيب يلعبون بذلك حينئذ مما لا يناسب جزالة التنزيل ولا يوافق جلالة نظمه الجزيل وإن أمكن تصحيح معناه بنوع من التأويل والمراد بالحدوث الذي يستدعيه محدث التجدد وهو يقتضي المسبوقية بالعدم ووصف الذكر بذلك باعتبار تنزيله لا باعتبار نفسه وإن صح ذلك بناء على حمل الذكر على الكلام اللفظي والقول بما شاع عن الأشاعر من حدوثه ضرورة أنه مؤلف من الحروف والأصوات لأن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الإنتظام بيان أنه كلما تجدد لهم التنبيه والتذكير وتكرر على أسماعهم
كلمات التخويف والتحذير ونزلت عليهم الآيات وقرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة والجهالة عدد الحصا وأرشدوا إلى طريق الحق مرارا لا يزيدهم ذلك إلا فرارا وأما إن ذلك المنزل حادث أو قديم فمما لا تعلق له بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام وجوز أن يكون المراد بالذكر الكلام النفسي وإسناد الإتيان إليه مجاز بل إسناده إلى الكلام مطلقا كذلك والمراد من الحدوث التجدد ويقال : إن وصفه بذلك باعتبار التنزيل فلا ينافي القول بقدم الكلام النفسي الذي ذهب إليه مثبتوه من أهل السنة والجماعة والحنابلة القائلون بقدم اللفظي كالنفسي يتعين عندهم كون الوصف باعتبار ذلك لئلا تقوم الآية حجة عليهم وقال الحسن بن الفضل المراد بالذكر النبي صلى الله عليه و سلم وقد سمى ذكرا في قوله تعالى : قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا ويدل عليه هنا هل هذا الخ الآتي قريبا إن شاء الله تعالى وفيه نظر وبالجملة ليست الآية مما تقام حجة على رد أهل السنة ولو الحنابلة كما لا يخفى وأسروا النجوى كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى من جناياتهم و النجوى اسم من التناجي ولا تكون إلا سرا فمعنى إسرارها المبالغة في إخفائها ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى التناجي فالمعنى أخفوا تناجيهم بأن لم يتناجوا بمرأى من غيرهم وهذا على ما في الكشف أظهر وأحسن موقعا وقال أبو عبيدة : الإسرار من الإضداد ويحتمل أن يكون هنا بمعنى الإظهار ومنه قول الفرزدق : فلما رأى الحجاج جرد سيفه أسر الحروري الذي كان أضمرا وأنت تعلم أن الشائع في الإستعمال معنى الإخفاء وإن قلنا إنه من الأضداد كما نص عليه التبريزي ولا موجب للعدول عن ذلك وقوله تعالى الذين ظلموا بدل من ضمير أسروا كما قال المبرد وعزاء ابن عطية إلى سيبويه وفيه إشعار بكونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما : هو فاعل أسروا والواو حرف دال على الجمعية كواو قائمون وتاء قامت وهذا على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة لأزد شنوءة قال شاعرهم : يلومونني في اشتراء النخيل أهل وكلهم ألوم وهي لغة حسنة على ما نص أبو حيان وليست شاذة كما زعمه بعضهم وقال الكسائي : هو مبتدأ والجملة قبله خبره وقدم اهتماما به والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلا على فعلهم بكونه ظلما وقيل هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل هو فاعل لفعل محذوف أي يقول الذين والقول كثيرا ما يضمر واختاره النحاس وهو على هذه الأقوال في محل الرفع
وجوز أن يكون في محل النصب على الذم كما ذهب إليه الزجاج أو على إضمار أعني كما ذهب إليه بعضهم وأن يكون في محل الجر على أن يكون نعتا للناس كما قال أبو البقاء أو بدلا منه كما قال الفراء وكلاهما كما ترى وقوله تعالى هل هذا إلا بشر مثلكم الخ في حيز النصب على أنه مفعول لقول مضمر بعد الموصول وصلته هو جواب عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا قالوا في نجواهم فقيل قالوا هل هذا الخ أو بدل من أسروا أو معطوف عليه وقيل حال أي قائلين هل هذا الخ وهو مفعول لقول مضمر قبل الموصول على ما اختاره النحاس وقيل مفعول للنحوي نفسها لأنها في معنى القول والمصدر المعرف يجوز إعماله الخليل وسيبويه وقيل بدل منها أي أسروا هذا الحديث و هل بمعنى النفي وليست للإستفهام التعجبي كما زعم أبو حيان والهمزة في قوله تعالى أفتأتون السحر للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقوله سبحانه وأنتم تبصرون
3

الصفحة 7