كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

نخلق من الطين كهيئة الطير وقول زهير : ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري وفي معنى ذلك تفسيره بالصنع كما فعل ابن عطية ولا يصح تفسيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجد لها استقلالا فالخالق الموجد متعدد عندهم وقد تكلفت الكتب الكلامية بردهم
ومعنى حسن خلقه تعالى اتقانه وإحكامه ويجوز أن يراد بالحسن مقابل القبح وكل شيء منه عز و جل شأنه حسن لا يتصف بالقبح أصلا من حيث أنه منه فلا دليل فيه للمعتزلة بأنه تعالى لا يخلق الكفر والمعاصي كما لا يخفى
روي أن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأملى عليه صلى الله عليه و سلم قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان حتى إذا بلغ عليه الصلاة و السلام ثم أنشأناه خلقا آخر نطق عبد الله بقوله تعالى فتبارك الله الخ قبل إملائه فقال له عليه الصلاة و السلام : هكذا نزلت فقال عبد الله : إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة كافرا ثم أسلم قبل وفاته عليه الصلاة و السلام وحسن إسلامه وقيل : مات كافرا وطعن بعضهم في صحة هذه الرواية بأن السورة مكية وارتداده كما تقتضيه الرواية وأجيب بأنه يمكن الجمع بأن تكون الآية نازلة بمكة واستكتبها صلى الله عليه و سلم إياه بالمدينة فكان ما كان أو يلتزم كون الآية مدنية لهذا الخبر وقوله : إن السورة مكية باعتبار الأكثر وعلى هذا يكون اقتصار الجلال السيوطي على استثناء قوله تعالى حتى أخذنا مترفيهم إلى قوله سبحانه مبلسون قصورا فتذكر وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل أخرج ابن راهوية وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردوية عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : أملي علي رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى قوله تعالى خلقا آخر فقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه فتبارك الله أحسن الخالقين فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله قال : بها ختمت ورويت أيضا عن عمر رضي الله تعالى عنه أخرج الطبراني وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى آخر الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه : فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت كما قال وأخرج ابن عساكر وجماعة عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عز و جل ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل : قصائد إن تكن تتلى على ملإ صدورها علمت منها قوافيها لا يقال : فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن الكريم وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر على الصحيح ما كان مقدرا أقصر سورة منه على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما تعرب عنه الفاء اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ثم إنكم بعد ذلك أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبيء عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال

الصفحة 16