كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

على مشرع آخر شبه القرآن بالمصباح على ما سبق ونفسه صلى الله عليه و سلم الزكية الطاهرة بالشجرة لكونها نابتة من أرض الدين متشبعة فروعها إلى سماء الإيمان متدلية أثمارها إلى فضاء الإخلاص والإحسان وذلك لاستقامتها بمقتضى قوله تعالى فاستقم كما أمرت غير مائلة إلى طرفي الإفراط والتفريط وذلك معنى قوله تعالى لا شرقية ولا غربية ويشبه ما محض من تلك الثمرات بعد التصفية التامة للتهيئة وقبول الآثار بالزيت الصافي لوفور قوة استعدادها للإستضاءة للدهنية القابلة للإشتعال ومن ثم خصت شجرة الزيتون لأن لب ثمرتها الزيت الذي تشتعل به المصابيح وخص هذا الدهن لمزيد إشراقه مع قلة الدخان يكاد زيت استعداده صلوات الله تعالى وسلامه عليه لصفائه وزكائه يضيء ولو لم يمسسه نور القرآن روي البغوي عن محمد بن كعب القرظي تكاد محاسن محمد صلى الله عليه و سلم تظهر للناس قبل أن يوحي إليه قال ابن رواحة : لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تنبيك عن خبره وفي حقائق السلمي مثل نوره في عبده المخلص والمشكاة القلب والمصباح النور الذي قذف فيه والمعرفة تضيء في قلب العارف بنور التوفيق يوقد من شجرة مباركة يضيء على شخص مبارك تتبين أنوار باطنه على آداب ظاهره وحسن معاملته زيتونة لا شرقية ولا غربية جوهرة صافية لا لها حظ في الدنيا ولا في الآخرة لاختصاصها بموالاة العزيز الغفار وتفردها بالفرد الجبار إلى غير ذلك وجعل بعضهم التشبيه من المركب الوهمي بناء على أن المراد من النور المشبه الهدى من حيث أنه محذوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم
وكان الظاهر على هذا دخول الكاف على المصباح دون المشكاة المشتملة عليه ومن هنا قيل إن في الآية قلبا ووجه بعضهم دخولها على المشكاة بأن المشتمل مقدم على المشتمل عليه في رأي العين فقدم لفظا ودخل الكاف عليه رعاية لذلك وقيل إنه على هذا أيضا تشبيه مفرق لأنه شبه الهدى بالمصباح والجهالات بظلم استلزمتها وهو كما ترى
ومن الناس من جعل التشبيه مفرقا لكن بنى كلامه على ما أسسه الفلاسفة فجعل النور المشبه ما منح الله تعالى عباده من القوى الخمس الدراكة المترتبة التي نيط بها المعاش وهو القوة الحساسة أعني الحس المشترك الذي يدرك المحسوسات بجواسيس الحواس الخمس الظاهرة والقوة الخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاء والقوة العقلية المدركة للحقائق الكلية والقوة الفكرية التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها على وجه يحصل به العلم بالمجهولات والقوة القدسية التي يختص بها الأنبياء والأولياء وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت وجعل ما في حيز الكلف عبارة عن أمور شبه بكل منها واحد من هذه الخمس فقال : شبهت القوة الحساسة بالمشكاة من حيث أن محلها تجويف في مقدم الدماغ كالكومة تضع فيه الحواس الظاهرة ما تحس به وبذلك يضيء وشبهت القوة الخيالية بالزجاجة من حيث أنها تقبل الصور المدركة من الجوانب كما تقبل الزجاجة الأنوار الحسية من الجوانب ومن حيث أنها تضبط الأنوار العقلية وتحفظها كما تحفظ الزجاجة الأنوار الحسية ومن حيث أنها تستنير بما يشتمل عليها من المعقولات وشبهت القوة العقلية بالمصباح لإضاءتها بالإدراكات والمعارف وشبهت القوة الفكرية بالشجرة المباركة من حيث أنها تؤدي إلى نتائج كثيرة هي بمنزلة ثمرات الشجرة واعتبرت زيتونة لأن لها فضيلة على سائر الأشجار من حيث أن لب ثمرتها

الصفحة 171