كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

من البرق كالغرفة واللقمة وعنه أيضا أنه قرأ برقه بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما قيل نظيره في ظلمات والسناء ممدودا بمعنى العلو وارتفاع الشأن وهو هنا كناية عن قوة الضوء وقريء يكاد سنا بإدغام الدال في السين يذهب بالأبصار
43
- أي يحفظها من فرط الإضاءة وسرعة ورودها وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث أنه توليد للضد من الضد
وقرأ أبو جعفر يذهب بضم الياء وكسر الهاء وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئته في هذه القراءة قالا : لأن الباء تعاقب الهمزة ولا يجوز اجتماع أداتي تعدية وقد أخطأ في ذلك لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبي وغيره رضي الله تعالى عنهم ولم ينفرد هو بها كما زعم الزجاج بل قرأ أيضا كذلك شيبة وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار وعلى أن الباء بمعنى من كما في قوله : فلثمت فاها قابضا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج والمفعول محذوف أي يذهب النور من الأبصار وأجاز الحريري كما نقل عنه الطيبي الجمع بين أداتي تعدية
يقلب الله الليل والنهار بإتيان أحدهما بعد الآخر أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر من إزجاء السحاب وما ترتب عليه وكأن الجملة على هذا استئناف بيان الحكمة فيما مر وعلى الأولين استئناف لبيان أنه عز و جل لا يتعاصاه ما تقدم من الإزجاء وما بعده وقيل هي معطوفة على ما تقدم داخلة في حيز الرؤية وأسقط حرف لقصد التعداد وهو كما ترى إن في ذلك إشارة إلى ما فضل آنفا وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته لعبرة لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي ودلالة ذلك على الوحدة بواسطة برهان التمانع وإلا ففيه خفاء بخلاف دلالته على ما عدا ذلك فإنها واضحة لأولي الأبصار
44
- لكل من له بصيرة يراجعها ويعملها فالأبصار هنا جمع بصر بمعنى البصيرة بخلافها فيما سبق وقيل : هو بمعنى البصر الظاهر كما هو المتبادر منه والتعبير بذلك دون البصائر للإيذان بوضوح الدلالة
وتعقب بأنه عليه ذهاب حسن التجنيس وارتكاب ما هو كالإيطاء واشتهر أنه ليس في القرآن جناس تام غير ما في قوله تعالى ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة وفيه كلام نقله السيوطي في الإتقان ناشيء عند من دقق النظر من عدم الإتقان واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني موضعا آخر وهو هذه الآية الكريمة وهو لا يتم إلا على ما قلنا وأشار إليه البيضاوي وغيره ولعل من اختار المتبادر راعي أن حسن تلك الإشارة فوق حسن التجنيس فتأمل والله خلق كل دابة أي كل حيوان يدب على الأرض وأدخلوا في ذلك الطير والسمك وظاهر كلام بعض أئمة التفسير أن الملائكة والجن

الصفحة 192