كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

يدخلون في عموم الدابة ولعلها عنده كل ما دب وتحرك مطلقا ومعظم اللغويين يفسرها بما سمعت والتاء فيها للنقل إلى الإسمية لا للتأنيث وقيل دابة واحد داب كخائنة وخائن
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل كل دابة بالجر بالإضافة من ماء هو جزء مادته وخصه بالذكر لظهور مزيد احتياج الحيوان بعد كمال تركيبه إليه وأن امتزاج الأجزاء الترابية به إلى غير ذلك أو ماء مخصوص هو النطفة فالتنكير على الأول للإفراد النوعي وعلى الثاني للإفراد الشخصي
وجوز أن يكون عليهما لذلك وكلمة كل على الثاني للتكثير كما في قوله تعالى يجبي إليه ثمرات كل شيء لأن من الدواب ما يتولد لا عن نطفة وزعم بعضهم أنها على الأول لذلك أيضا بناء على شمول الدابة للملائكة المخلوقين من نور وللجن المخلوقين من نار وادعى أيضا أن من الإنس من لم يخلق من ماء أيضا وهو آدم وعيسى عليهما السلام فإن الأول خلق من التراب والثاني خلق من الروح ولا يخفى ما فيه وجوز أن يعتبر العموم في كل ويراد بالدابة ما يخلق بالتوالد بقرينة من ماء أي نطفة وفيه بحث وقيل ما من شيء دابة كان أو غيره إلا وهو مخلوق من الماء فهو أصل جميع المخلوقات لما روي أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور وخلق منها الخلق وأيا ما كان فمن متعلقة بخلق وقال القفال واستحسنه الإمام : هي متعلقة بمحذوف وقع صفة لدابة فالمراد الإخبار بأنه تعالى خلق كل دابة كائنة أو متولدة من الماء فعموم الدابة عنده مخصص بالصفة وعموم كل على ظاهره
والظاهر أنه متعلق بخلق وهو أوفق بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام وتنكير الماء هنا وتعريفه في قوله تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي لأن القصد هنا إلى معنى الإفراد شخصا أو نوعا والقصد هناك إلى معنى الجنس وأن الماء مبدأ كل شيء حي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات والسمك وتسمية حركتها مشيا مع كونها زحفا مجاز للمبالغة في إظهار القدرة وأنها تزحف بلا آلة كشبه المشي وأقوى ويزيد ذلك حسنا ما فيه من المشاكلة لذكر الزاحف من الماشين ونظير ما هنا من وجه قوله تعالى يد الله فوق أيديهم على رأي ومنهم من يمشي على رجلين كالإنس والطير ومنهم من يمشي على أربع كالنعم والوحش
والظاهر أن المراد أربع أرجل فيفيد إطلاق الرجل على ما تقدم من قوائم ذوات القوائم الأربع وقد جاء إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم الإعتداد بها مع الإشارة إليها بقوله سبحانه يخلق الله ما يشاء أي مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا كان أو مركبا على ما يشاء من الصور والأعضاء والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل وزعم الفلاسفة أن اعتماد ماله أكثر من أربع من الحيوان إنما هو على أربع ولا دليل لهم على ذلك وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر وهو ظاهر في خلاف ما يزعمون لكنه لم يثبت قرآنا وتذكير الضمير في منهم لتغليب العقلاء وبني على تغليبهم في الضمير التعبير بمن واقعة على ما لا يعقل قاله الرضي وظاهر بعض العبارات يشعر باعتبار التغليب في كل دابة وليس بمراد بل المراد أن ذلك لما شمل العقلاء وغيرهم على طريق الإختلاط لزم اعتبار ذلك في الضمير العائد عليه وتغليب لا تغليب في من الأولى والثالثة بل هو في الثانية فقط وقد يقال : لا تغليب في الثلاثة بعد اعتباره في الضمير فتدبر وترتيب الأصناف حسبما رتبت لتقديم ما هو أعرف في القدرة ولا ينافي ذلك كون المشي على البطن بمعنى الزحف مجازا كما توهم وإظهار الأسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية والإظهار في قوله سبحانه إن الله على كل شيء قدير
45
- أي فيفعل ما يشاء كما يشاء لذلك أيضا مع تأكيد استقلال الإستئناف التعليلي لقد أنزلنا آيات مبينات أي لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية أو واضحات في أنفسها وهذا كالمقدمة لما بعده ولذا لم يأت بالعاطف فيه كما أتى سبحانه به فيما مر من قوله تعالى ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذي خلوا الآية ومن اختلاف المساق يعلم وجه ذكر إليكم هناك وعدم ذكره هنا
والله يهدي من يشاء هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها والتدبر لمعانيها إلى صراط مستقيم
46
- موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة ويقولون آمنا بالله وبالرسول شروع في بيان أحوال بعض من لم يشأ الله تعالى هدايته إلى صراط مستقيم وهم من الكفرة الذي سبق وصف أعمالهم أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنها نزلت في المنافقين وروي عن الحسن نحوه وقيل نزلت في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ثم تحاكما إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه الصلاة و السلام وقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه و سلم فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق : أكذلك فقال : نعم فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل رضي الله تعالى عنه بيته وخرج بسيفه فضرب عنق ذلك المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فنزلت وقال جبريل عليه السلام : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي لذلك الفاروق وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي كرم الله تعالى وجهه خصومة في أرض فتقاسما فوقع لعلي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة : يعني أرضك فباعها إياه وتقابضا فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي كرم الله تعالى وجهه : اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فإن الماء لا ينالها فقال علي : قد أشتريتها ورضيتها وقبضتها وأنت تعرف حالها لا أقبلها منك ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أما محمد فلست آتيه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت وعلى هذا وما قبله جمع الضمير لعموم الحكم أو لأن مع القائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة كما في قولهم بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد وإعادة الباء للمبالغة في دعوى الإيمان وكذا التعبير عنه صلى الله عليه و سلم بعنوان الرسول وقولهم مع ذلك وأطعنا أي واطعنا الله تعالى والرسول صلى الله عليه و سلم في الأمر والنهي ثم يتولى أي يعرض عما يقتضيه هذا القول من قبول الحكم الشرعي عليه فريق منهم من بعد ذلك أي من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه و سلم والطاعة لهما وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بكونه أمرا معتدا به واجب المراعاة وما أولئك إشارة إلى القائلين آمنا الخ وهم المنافقون

الصفحة 193