كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

مذعنين
49
- منقادين لعلمهم بأنه عليه الصلاة و السلام يحكم لهم والظاهر تعلق إلى بيأتوا وجوز تعلقها بمذعنين على أنها بمعنى اللام أو على تضمين الإذعان معنى الإسراع وفسره الزجاج بالإسراع مع الطاعة وتقديم المعمول للإختصاص أو للفاصلة أولهما وعبر بإذا فيما مر إشارة إلى تحقق الشرط وبأن هنا إشارة إلى عدم تحققه وفي ذلك أيضا ذم لهم
وقوله تعالى : أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ترديد لسبب الإعراض المذكور فمدار الإستفهام ما يفهم من الكلام كأنه قيل : أسبب أعراضهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه و سلم أنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم ام أنهم ارتابوا وشكوا في أمر نبوته عليه الصلاة و السلام مع ظهور حقيقتها أم سببه أنهم يخافون أن يحيف ويجور الله تعالى شأنه عليهم ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم
وهذا نظير قولك أفيه مرض أم غاب عن البلد أم يخاف من الواشي بعد قول : هجر الحبيب مثلا فإن كون المعنى أسبب هجره أن فيه مرضا أم سببه أنه غاب عن البلد أم سببه أنه يخاف من الواشي ظاهر جدا وهو كثير في المحاورات إلا أن الإستفهام في الآية إنكاري وهو لإنكار السببية وقوله تعالى : بل أولئك هم الظالمون
50
- تعيين للسبب بعد إبطال سببية جميع ما تقدم ففيه تأكيد لما يفيده الإستفهام كأنه قيل : ليس شيء مما ذكر سببا لذلك الإعراض أما الأولان فلأنه لو كان شيء منهما سببا له لأعرضوا عن المحاكمة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه عليه الصلاة و السلام مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضا وأما الثالث فلانتفائه رأسا حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلا لمعرفتهم بتفاصيل أحواله عليه الصلاة و السلام في الأمانة والثبات على الحق بل سبب ذلك أنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من الحق له عليهم ولا يتأتى مرامهم مع الإنقياد إلى المحاكمة إليه عليه الصلاة و السلام فيعرضون عنها لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يقضي بالحق عليهم فمناط النفي المستفاد من الإستفهام الإنكاري والإضراب الإبطالي في الأولين هو وصف سببيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما وفي الثالث هو الأصل والوصف جميعا وإذا خص الإرتياب بما له جهة مصححة لعروضه لهم في الجملة كما فعل البعض حيث جعل المعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى الله تعالى عليه وسلم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به عليه الصلاة و السلام كان مناط النفي في الثاني كما في الثالث كذا قرره بعض الأجلة و أم عليه متصلة وقد ذهب إلى أنها كذلك الزمخشري والبيضاوي حيث جعلا ما تقدم نقسيما لسبب الإعراض إلا أن الأول جعل الإضراب عن الأخيرين من الأمور الثلاثة ووجه بأنه أدل على ما كانوا عليه وأدخل في الإنكار من حيث أنه يناقض تسرعهم إليه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا كان الحق لهم على الغير والثاني جعله إضرابا عن الأخيرين منهما لتحقيق القسم الأول وقال : وجه التقسيم أن امتناعهم عن المحاكمة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم إما أن يكون لخلل فيهم أو في الحاكم والثاني إما أن يكون محققا أو متوقعا وفسر الإرتياب برؤية مثل تهمة تزيل يقينهم ثم قال : وكلاهما باطلان فتعين الأول أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن منصب النبوة وفرط أمانته عليه الصلاة و السلام يمنعه وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف
وقال العلامة الطيبي : الحق أن بل إضراب عن نفس التقسيم وهو إضراب انتقالي كأنه قيل : دع التقسيم

الصفحة 196