كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

الحقيقة فتعم العموم من المسوغات ولم تعرف لئلا يتوهم أن تعريضها للعهد والجملة تعليل للنهي أي لا تقسموا فإن الطاعة معروفة منكم ومن غيركم لا تخفى فقد جرت سنة الله تعالى على أن العبد وإن اجتهد في إخفاء الطاعة لا بد وأن يظهر سبحانه مخايلها على شمائله وكذا المعصية فلا فائدة في إظهار ما يخاف الواقع وفي الأحاديث ما يشهد لما ذكر فقد روي الطبراني عن جندب ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها وروي الحاكم وقال : صحيح الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج لأنسان كائنا من كان وهذا المعنى على ما قيل حسن لكنه خلاف الظاهر
وقرأ زيد بن علي والزيدي طاعة معروفة بالنصب على تقدير تطيعون طاعة معروفة نفاقية وقيل أطيعوا طاعة معروفة حقيقية وطاعة بمعنى إطاعة كما في قوله تعالى : أنبتكم من الأرض نباتا إن الله خبير بما تعملون
53
- من الأعمال الظاهرة والباطنة التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة وما تضمرونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها من فنون الشر والفساد والمراد الوعيد بأنه تعالى مجازيهم بجميع أعمالهم السيئة التي منها نفاقهم وفي الإرشاد أن الجملة تعليل للحكم بأن طاعتهم طاعة نفاقية مشعر بأن مدار شهرة أمرها فيما بين المؤمنين إخباره تعالى بذلك ووعيد لهم بالمجازاة
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كرر الأمر بالقول لإبراز كمال العناية به والإشعار باختلافهما حيث أن المقول الأول نهي بطريق الرد والتبكيت وفي الثاني أمر بطريق التكليف والتشريع وفي تكرر فعل الإطاعة والعدول عن أطيعوني إلى أطيعوا الرسول ما لا يخفى من الحث على الطاعة وإطلاقها عن وصف الصحة والإخلاص ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما تقدم للتنبيه على أنها ليست من الطاعة في شيء
وقوله تعالى فإن تولوا خطاب للمنافقين الذين أمر عليه الصلاة و السلام أن يقول لهم ما سمعت وارد من قبله عز و جل غير داخل في حيز قل على ما اختاره صاحب التقريب وغيره وفيه تأكيد للأمر السابق والمبالغة في إيجاب الإمتثال به والحمل بالترهيب والترغيب لما أن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سننه المسلوك ينبيء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من السامع لا سيما إذا كان ذلك بتغيير الخطاب بالواسطة بالذات كما هنا والفاء لترتيب ما بعدها على تبليغه عليه الصلاة و السلام للمأمور به إليهم وعدم التصريح للإيذان بغاية مسارعته صلى الله عليه و سلم إلى تبليغ ما أمر به وعدم الحاجة إلى الذكر أي إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمركم الرسول صلى الله عليه و سلم بها فإنما عليه أي على الرسول عليه الصلاة و السلام ما حمل أي ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وعليكم ما حملتم أي ما أمرتم به من الطاعة ولعل التعبير بالتحميل أولا للإشعار بثقل الوحي في نفسه وثانيا للإشعار بثقل الأمر عليهم وقيل : لعل التعبير بذلك في جانبهم للإشعار بثقله وكون مؤنه باقية في عهدتهم بعد كأنه قيل : وحيث توليتم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل والتعبير به في جانبه عليه الصلاة و السلام للمشاكلة والفاء واقعة في جواب الشرط وما بعدها قائم مقام الجواب أو جواب على حد ما في قوله تعالى : وما بكم من

الصفحة 200