كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

الأغلب في الإستعمال الإطلاق الأول فلا تغفل وإذا كانت من بيانية فالمعنى وعد الله الذين آمنوا الذين هم أنتم ليستخلفنهم في الأرض أي ليجعلهم خلفاء ماصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم أو خلفاء من الذين كانوا يخافونهم من الكفرة بأن ينصرهم عليهم ويورثهم أرضهم والمراد بالأرض على ما قيل جزيرة العرب زقيل مأواه عليه الصلاة و السلام من مشارق الأرض ومغاربها ففي الصحيح زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها واللام واقعة في جواب القسم المحذوف ومفعول وعد الثاني محذوف دل عليه الجواب أي وعد الله الذين آمنوا استخلافهم وأقسم ليستخلفنهم ويجوز أن ينزل وعده تعالى لتحقق إنجازه لا محالة منزلة القسم وإليه ذهب الزجاج ويكون ليستخلفنهم منزل منزلة المفعول فلا حذف
وما في قوله تعالى كما استخلف مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر محذوف أي ليستخلفنهم استخلافا كائنا كاستخلافه الذين من قبلهم وهم بنو إسرائيل استخلفهم الله عز و جل في الشام بعد إهلاك الجبابرة وكذا في مصر على ما قيل من أنها صارت تحت تصرفهم بعد هلاك فرعون وإن لم يعودوا إليها أو هم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة الذين أسكنهم الله تعالى في الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين
وقريء كما استخلف بالبناء للمفعول فيكون التقدير ليستخلفنهم في الأرض فيستخلفون فيها استخلافا أي مستخلفية كائنة كمستخلفية الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم عطف على ليستخلفنهم والكلام فيه كالكلام فيه وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أنه كالأثر للإستخلاف المذكور
وقيل : لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصير المواعيد في الإستمالة أدخل والتمكين في الأصل جعل الشيء في مكان ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت والمعنى ليجعلن دينهم ثابتا مقررا بأن يعلي سبحانه شأنه ويقوي بتأييده تعالى أركانه ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره ويستنهضون الرجل والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره فيكون بحيث ييأسون من التجميع لتفريقهم عنه ليذهب من البين ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثرا بعد عين
وقيل : المعنى ليجعله مقررا ثابتا بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يذرون وأصل التمكين جعل الشيء مكانا لآخر والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الإستخلاف في الأرض انتهى وفيه بحث وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه أعني قوله تعالى : الذي ارتضى لهم وتأخيره عن الوصف من الإخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه ما فيه وليبدلنهم بالتشديد وقرأ ابن كثير وابن بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف من الإبدال وأخرج ذلك عبد ابن حميد عن عاصم وهو عطف على ليستخلفنهم أو ليمكنن من بعد خوفهم بمقتضى البشرية في الدنيا

الصفحة 203