كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

من أعدائهم في الدين أمنا لايقادر قدره وقيل : الخوف في الدنيا من عذاب الآخرة وإلا من في الاخرة ورجح بأن الكلام عليه أبعد من احتمال التأكيد بوجه من الوجوه بخلافه على الأول
وأنت تعلم أن الأول أوفق بالمقام والأخبار الواردة في سبب النزول تقتضيه وأمر احتمال التأكيد سهل
يعبدونني جوز أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال ما من الذين الأول لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد لأن ما في حيز الصلة من الإيمان وعمل الصالحات بصيغة الماضي لما دل على أصل الآتصاف به جيء بما ذكر حالا بصيغة المضارع الدال على الإستمرار التجددي وإما من الضمير العائد عليه في ليستخلفنهم أو في ليبدلنهم وجوز أن تكون مستأنفة إما لمجرد الثناء على أولئك المؤمنين على معنى هم يعبدونني وإما لبيان علة الإستخلاف وما انتظم معه في سلك الوعد وقوله تعالى : لا يشركون بي شيئا حال من الواو في يعبدونني أو من الذين أو يدل من الحال أو استئناف ونصب شيئا على أنه مفعول به أي شيئا مما يشرك به أو مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك ومعنى العبادة وعدم الإشراك ظاهر
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله سبحانه : يعبدونني لا يشركون بي شيئا لا يخافون أحدا غيري وأخرج هو وجماعة عن مجاهد نحوه ولعلهما أرادا بذلك تفسيير لا يشركون بي شيئا وكأنهما عدا خوف غير الله تعالى نوعا من الإشراك واختير على هذا حالية الجملة من الواو كأنه قيل : يعبدونني غير خائفين أحدا غيري وجوز أن يكونا قد أرادا بيان المراد بمجموع يعبدونني لا يشركون الخ وكأنهما ادعيا أن عدم خوف أحد غيره سبحانه من لوازم العبادة والتوحيد وأن جملة يعبدونني الخ استئناف لبيان ما يصلون إليه في الأمن كأنه قيل : يأمنون إلي حيث لا يخافون أحدا غير الله تعالى ولا يخفى ما في التعبير بضمير المتكلم وحده في يعبدونني ولا يشركون بي دون ضمير الغائب ودون ضمير العظمة من اللطافة
ومن كفر أي ومن ارتد من المؤمنين بعد ذلك أي بعد حصول الموعود به فأولئك المرتدون البعداء عن الحق هم الفاسقون
55
- أي الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان إذ لا عذر لهم حينئذ ولا كجناح بعوضة وقيل : كفر من الكفران لا من الكفر مقابل الإيمان وروي ذلك عن أبي العالية وكمالهم في الفسق لعظم النعمة التي كفروها وقيل : ذلك إشارة إلى الوعد السابق نفسه وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى ومن اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الإهتمام بتحصيلها فأولئك هم الكاملون في الفسق وكون المراد بكفر ما ذكر أنسب بالمقام من كون المراد به ارتد أو كفر النعمة انتهى والأولى عندي ما تقدم فإنه الظاهر وفي الكلام عليه تعظيم لقدر الموعود به من حيث أنه لا يبقى بعد حصوله عذر لمن يرتد وقوة مناسبته للمقام لا تخفى وهو ظاهر قول حذيفة رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال : كنت جالسا مع حذيفة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما فقال حذيفة : ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما هو الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال : بم تقول قال : بهذه الآية وعد الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات إلى آخر

الصفحة 204