كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفي البحر هي مكية بلا خلاف واستثنى منها كما في الأنفال قوله تعالى حتى إذا أخذناهم مترفين إلى قوله سبحانه مبلسون واستشكل الحكم على ما عداه بكونه مكيا لما فيه من ذكر الزكاة وهي إنما فرضت بالمدينة وأجيب بأنه بعد تسليم أن ماذكر فيه يدل على فرضيتها يقال : إن الزكاة كانت واجبة بمكة والمفروض بالمدينة ذات النصب وتستمع تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وهي كما في كتاب العدد للداني الطبرسي مائة وثمان وعشرة آية في الكوفي ومائمة وسبع عشر آية في الباقي وقد مدح النبي صلى الله عليه و سلم العشر الأول منها فقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه والضياء في المختارة وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكتا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ثم قال : لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر ومناسبتها لآخر السور قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا اركعوا الآية وفيها لعلكم تفلحون فناسب أن يحقق ذلك فقال عز قائلا : بسم الله الرحمن الرحيم
قد أفلح المؤمنون
1
- والفلاح الفوز بالمرام وقيل : البقاء في الخير والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول بالبشارة وقد يجيء متعديا وعليه قراءة طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد أفلح بالبناء للمفعول و قد لثبوت أمر متوقع وتحققه والظاهر أنه هنا الفلاح لأن قد دخلت على فعله وهو متوقع الثبوت من حال المؤمنين وجعله الزمخشري الإخبار بثباته وذلك لأن الفلاح مستقبل أبرز من معرض الماضي مؤكدا بقد دلالة على تحققه فيفيد تحقق البشارة وثباتها كأنه قيل : قد تحقق أن المؤمنين من أهل الفلاح في الآخرة وجوز أن يكون جملة قد أفلح جواب قسم محذوف وقد ذكر الزجاج في قوله تعالى : قد أفلح من زكاها أنه جواب القسم المذكور قبله بتقدير اللام
وقرأ ورش عن نافع قد أفلح بالقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها لفظا لالتقاء الساكنين كما قال أبو البقاء وهما الهمزة الساكنة بعد نقل حركتها والدال الساكنة بحسب الأصل لأنه لا يعتد بحركتها العارضة
وقرأ طلحة أيضا قد أفلحوا بضم الهمزة والحاء والقاء واو الجمع وهي مخرجة على لغة أكلوني البراغيث وقول ابن عطية هي قراءة مردودة مردود وعن عيسى بن عمر قال : سمعت طلحة يقرأ قد أفلحوا المؤمنون فقلت له : أتلحن قال : نعم كما لحن أصحابي ولعل مراده إن مرجع قراءتي الرواية ومتى صحت في شيء
من الوقت الممتد إما لانفهامه بعد الأمر بالإستئذان في الأوقات المذكورة من باب الأولى وأما لندرة الوارد فيه جدا كما قيل وقيل إن ذاك لجريان العادة على أن من ورد فيه لا يرد حتى يعلم أهل البيت لما في الورود ودخول البيت فيه من دون إعلام أهله من التهمة ما لا يخفى
وقوله تعالى ثلاث عورات خبر لمبتدأ محذوف وقوله سبحانه لكم متعلق بمحذوف وقع صفة له أي هن ثلاث عورات كائنة لكم والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان إذا اختل حاله والأعور المختل العين وعورة الإنسان سوأته وأصلها كما قال الراغب : من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة وضميرهن المحذوف للأوقات الثلاثة والكلام على حذف مضاف أي هن أوقات يختل فيها التستر عادة وقدر أبو البقاء المضاف قبل ثلاث فقال : أي هي أوقات ثلاث عورات أولا حذف فيه وإطلاق العورات على الأوقات المذكورة المشتملة عليها للمبالغة كأنها نفس العورات والجملة استئناف مسوق لبيان علة طلب الإستئذان في تلك الأوقات
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي ثلاث بالنصب على أنه بدل من ثلاث مرات وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأوقات المذكورة وكونه منصوبا بإضمار أعني وقرأ الأعمش عورات بفتح الواو وهي لغة هذيل بن مدركة وبني تميم ليس عليكم ولا عليهم أي على الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم جناح أي في الدخول بغير استئذان بعدهن أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منهن وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل كل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفيه حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذ الرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان الفعل المكلف كذا في إرشاد العقل السليم وظاهره أنه لا حرج في الدخول بغير استئذان في الوقت المتخلل بين ما بعد صلاة العشاء وما قبل صلاة الفجر بالمعنى السابق للبعدية والقبلية ومقتضى ما قدمنا ثبوت الحرج في ذلك فيكون كالمستثنى مما ذكر
وكان الظاهر أن يقال : ليس عليهم جناح بعدهن وعدم التعرض لنفي أن يكون على المخاطبين جناح لأن المأمورين ظاهرا فيما تقدم بالإستئذان في العورات الثلاث هم المماليك والمراهقون الأحرار لا غير وإن اعتبر المأمورون في الحقيقة فيما مر كان الظاهر ههنا أن يقال : ليس عليكم جناح بعدهن مقتصرا عليه ولعل اختيار ما في النظم الجليل لرعاية المبالغة في الإذن بترك الإستئذان فيما عدا تلك الثلاث حيث نفى الجناح عن المأمورين به فيها ظاهرا وحقيقة
والظاهر أن المراد بالجناح الإثم الشرعي واستشكل بأنه يفهم من الآية ثبوت ذلك للمخاطبين إذا دخل المماليك والذين لم يبلغوا الحلم منهم عليهم من غير استئذان في تلك العورات مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وثبوته للمماليك والصغار كذلك مع أن الصغار غير مكلفين فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي
وأجيب بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم ولا عبرة به عندنا وعلى القول باعتباره يمكن أن يكون ثبوته للمخاطبين حينئذ لتركهم تعليمهم والتمكين من الدخول عليهم ويبقى إشكال ثبوته للصغار ولا مدفع له إلا بالتزام القول بأن التكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ وهو خلاف ما عليه جمهور الأئمة

الصفحة 213