كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

وفي تعليل هذا التبيين بهذه الغاية القصوى بعد تذييل الأولين بما يوجبهما من الجزالة ما لا يخفى وذكر بعض الأجلة أنه سبحانه بدأ السورة بقوله تعالى وأنزلنا فيها آيات بينات وختمها بقوله عز و جل كذلك يبين الله لكم الآيات ثم جعل تبارك وتعالى ختام الختم قوله سبحانه إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله الخ دلالة على أن ملاك ذلك كله والمنتفع بتلك الآيات جمع من سلم نفسه لصاحب الشريعة صلوات الله تعالى وسلامه عليه كالميت بين يدي الغاسل لا يحجم ولا يقدم دون إشارته صلى الله عليه و سلم ولهذه الدقيقة أورد هذه الآية شهاب الحق والدين أبو حفص عمر السهروردي قدس سره في باب سير المريد مع الشيخ ونبه بذلك أن كل ما يرسمه من أمور الدين فهو أمر جامع
وقال شيخ الإسلام : إن هذا استئناف جيء به في أواخر الأحكام السابقة تقريرا لها وتأكيدا لوجوب مراعاتها وتكميلا لها ببسان بعض آخر من جنسها وإنما ذكر الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم صلة للموصول الواقع خبرا للمبتدأ مع تضمنه له قطعا تقريرا لما قبله وتمهيدا لما بعده وإيذانا بأنه حقيق بأن يجعل قرينا للإيمان المذكور منتظما في سلكه فقوله تعالى وإذا كانوا معه على أمر جامع الخ معطوف على آمنوا داخل معه في حيز الصلة وبذلك يصح الحمل والحصر باعتبار الكمال أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم عن صميم قلوبهم وأطاعوا في جميع الأحكام التي من جملتها ما فصل من قبل من الأحكام المتعلقة بعامة أحوالهم المطردة في الوقوع وأحوالهم الواقعة بحسب الإتفاق كما إذا كانوا معه عليه الصلاة و السلام على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد والحروب وغيرها من الأمور الداعية إلى الإجتماع لغرض من الأغراض وعن ابن زيد أن الأمر الجامع الجهاد وقال الضحاك وابن سلام : هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والإستسقاء وعن ابن جبير هو الجهاد وصلاة الجمعة والعيدين ولا يخفى أن الأولى العموم وإن كانت الآية نازلة في حفر الخندق ولعل ما ذكر من باب التمثيل ووصف الأمر بالجمع مع أنه سبب له للمبالغة والظاهر أن ذلك من المجاز العقلي وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية
وقرأ اليماني على أمر جميع وهو بمعنى جامع أو مجموع له على الحذف والإيصال لم يذهبوا عنه صلى الله عليه و سلم حتى يستأذنوه عليه الصلاة و السلام في الذهاب فيأذن لهم به فيذهبون فالغاية هي الأذن الحاصل بعد الإستئذان والإقتصار على الإستئذان لأنه الذي يتم من قبلهم وهو المعتبر في كمال الإيمان لا الأذن ولا الذهاب المترتب عليه واعتباره في ذلك لما أنه كالصداق لصحته والمميز للمخلص عن المنافق فإن ديدنه التسلل للفرار ولتعظيم ما في الذهاب بغير إذنه عليه الصلاة و السلام من الجناية وللتنبيه على ذلك عقب سبحانه بقوله عز و جل إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فقد جعل فيه المستأذنين هم المؤمنون عكس الأول دلالة على أنهما متعاكسان سواء بسواء ومنه يلزم أنه كالمصداق لصحة الإيمانين وكذلك من اسم الإشارة لدلالته على أن استئهال الإيمانين لذلك فإذا استئذنوك بيان لما هو وظيفته صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الباب أثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقق أن الكاملين في الإيمان هم المستأذنون فإذا استأذنوك لبعض شأنهم أي لبعض أمرهم المهم وخطبهم الملم

الصفحة 223