كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

فأذن لمن شئت منهم تفويض للأمر إلى رأيه صلى الله عليه و سلم واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلى الله تعالى عليه وسلم وهذه مسئلة التفويض المختلف في جوازها بين الأصوليين وهي أن يفوض الحكم إلى المجتهد فيقال له : احكم بما شئت فإنه صواب فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا فقال موسى بن عمران : بجواز ذلك مطلقا للنبي وغيره من العلماء وقال أبو علي الجبائي : يجوز ذلك للنبي خاصة في أحد قوليه وقد نقل عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ومنع من ذلك الباقون والمجوزون اختلفوا في الوقوع قال الآدمي : والمختار الجواز دون الوقوع وقد أطال الكلام في هذا المقام فليراجع والذي أميل إليه جواز أن يفوض الحكم إلى المجتهد إذا علم أنه يحكم ترويا لا تشهيا ويكون التفويض حينئذ كالأمر بالإجتهاد والأليق بشأن الله تعالى وشأن رسوله صلى الله عليه و سلم أن ينزل ما هنا على ذلك وتكون المشيئة مقيدة بالعلم بالمصلحة وذكر بعض الفضلاء لا خلاف في جواز أن يقال : احكم بما شئت ترويا بل الخلاف في جواز أن يقال : احكم بما شئت تشهيا كيفما اتفق وأنت تعلم أنه بعد التقييد لا يكون ما نحن فيه من محل النزاع ومن الغريب ما قيل : إن المراد ممن شئت منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا يخفى ما فيه واستغفر لهم الله فإن الإستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة وتقديم لهم للمبادرة إلى أن الإستغفار للمستأذن لا للإذن
إن الله غفور مبالغ في مغفرة فرطات العباد رحيم
62
- مبالغ في إفاضة شابيب الرحمة عليهم والجملة تعليل للمغفرة الموعودة في ضمن الإستغفار لهم وقد بالغ شأنه في الإحتفال برسوله صلوات الله تعالى وسلامه عليه فجعل سبحانه الإستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا للإستغفار فضلا عن الذهاب بدون إذن ورتب الإذن على الإستئذان لبعض شأنهم لا على الإستئذان مطلقا ولا على الإستئذان لأي أمر مهما كان أو غير مهم ومع ذلك علق الأذن بالمشيئة وإذا اعتبرت وجوه المبالغة في قوله تعالى إنما المؤمنون إلى هنا وجدتها تزيد على العشرة وفي أحكام القرآن للجلال السيوطي أن في الآية دليلا علة وجوب استئذانه صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الإنصراف عنه عليه الصلاة و السلام في كل أمر يجتمعون عليه قال الحسن : وغير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من الأئمة مثله في ذلك لما فيه من أدب الدين وأدب النفس وقال ابن الفرس : لا خلاف في الغزو أنه يستأذن إمامه إذا كان له عذر يدعوه إلى الإنصراف واختلف في صلاة الجمعة إذا كان له عذر كالرعاف وغيره فقيل يلزمه الإستئذان سواء كان أمامه الأمير أم غيره أخذ من الآية وروي ذلك عن مكحول والزهري لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا استئناف مقرر لمضمون ما قبله والإلتفات لإبراز مزيد الإعتناء بشأنه أي لا تقيسوا دعاءه عليه الصلاة و السلام إياكم على دعاء بعضكم بعضا في حال من الأحوال وأمر من الأمور التي من جملتها المساهلة فيه والرجوع عن مجلسه عليه الصلاة و السلام بغير استئذان فإن ذلك من المحرمات وإلى نحو هذا ذهب أبو مسلم واختاره المبرد والقفال وقيل : المعنى لا تحسبوا دعاءه صلى الله تعالى عليه وسلم عليكم كدعاء بعضكم

الصفحة 224