كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

كافرة فقد جاءوا أي الذين كفروا كما هو الظاهر ظلما منصوب بجاءوا فإن جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيتعديان تعديته كما قال الكسائي واختار هذا الوجه الطبرسي وأنشد قوله طرفة : على غير ذنب جئته غير أنني نشدت فلم أغفل حمولة معبد وقال الزجاج : منصوب بنزع الخافض فهو من باب الحذف والإيصال وجوز أبو البقاء كونه حالا أي ظالمين والأول أولى والتنوين فيه للتفخيم أي جاؤا بما قالوا ظلما هائلا عظيما لا يقادر قدره حيث جعلوا الحق البحت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إفكا مفترى من قبل البشر وهو من جهة نظمه الرائق وطرازه الفائق بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آية من آياته ومن وجهة اشتماله على الحكم الخفية والأحكام المستتبعة للسعادات الدينية الدنيوية والأمور الغيبية بحيث لا تناله عقول البشر ولا تحيط بفهمه القوى والقدر وكذا التنوين في وزورا
4
- أي وكذبا عظيما لا يبلغ غايته حيث قالوا ما لا احتمال فيه للصدق أصلا وسمي الكذب زورا لازوراره أي ميله عن جهة الحق والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة يقع أحدهما عقيب الآخر أو يحصل بسببه بل على أن الثاني عين الأول حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الإعتيادي وقد لتحقيق ذلك المعنى فإن ما جاءه من الظلم والزور هو عين ما حكى عنهم لكنه لما كان مغايرا له في المفهوم وأظهر منه بطلانا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره كما قاله شيخ الإسلام وقيل : ضمير جاؤا عائد على قوم آخرين والجملة من مقول الكفار وأرادوا أن أولئك المعينين جاءوا ظلما بإعانتهم وزورا بما أعانوا به وهو كما ترى
وقالوا أساطير الأولين بعد ما جعلوا الحق الذي لا محيد عنه إفكا مختلفا بإعانة البشر بينوا على زعمهم الفاسد كيفية الإعانة وتقدم الكلام في أساطير وهي خبر مبتدأ محذوف أي هذه أو هو أو هي أساطير الأولين وقوله تعالى اكتتبها خبر ثان وقيل : حال بتقدير قد وتعقب بأن عامل الحال إذا كان معنويا لا يجوز حذفه كما في المغنى وفيه أنه غير مسلم كما في شرحه وجوز أن يكون أساطير مبتدأ وجملة اكتتبها الخبر ومرادهم كتبها لنفسه والإسناد مجازي كما في بنى الأمير المدينة والمراد أمر بكتابتها أو يقال حقيقة أكتبت أمر بالكتابة فقد شاع افتعل بهذا المعنى كاحتجم وافتصد إذا أمر بالحجامة والفصد وقيل قالوا ذلك لظنهم أنه يكتب حقيقة أو لمحض الإفتراء عليه عليه الصلاة و السلام بناء على علمهم أنه لم يكن يكتب صلى الله عليه و سلم وقيل : مرادهم جمعها من كتب الشي جمعه والجمهور على الأول
وقرأ طلحة اكتتبها مبنيا للمفعول والأصل اكتتبها له كاتب فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض العلمي بخصوصه فبني الفعل للمفعول وأسند للضمير فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا وهذا مبني على جواز إقامة المفعول الغير الصريح مقام الفاعل مع وجود الصريح وهو هنا ضمير الأساطير وهو الذي ارتضاه الرضي وغيره وجمهور البصريين على عدم الجواز وتعين المفعول الصريح للإقامة فيقال عندهم : اكتتبه وعليه قول الفرزدق :

الصفحة 235