كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

ومنا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هب الرياح الزعازع بنصب الرجال وعلى الأول كان حق التركيب اختيره الرجال بالرفع فإن الأصل اختاره من الرجال مختار وظاهر أنه إذا عمل فيه ما تقدم يصير إلى ما ذكر فهي تملي عليه أي تلقي تلك الأساطير عليه بعد اكتتابها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة فالإملاء الإلقاء للحفظ بعد الكتابة استعارة لا الإلقاء للكتابة كما هو المعروف حتى يقال : إن الظاهر العكس بأن يقال : أمليت عليه فهو يكتتبها أو المعنى أراد اكتتابها أو طلب كتابتها فأمليت عليع أي عليه نفسه أو على كاتبه فالإملاء حينئذ باق على ظاهره وقرأ طلحة وعيسى تتلى بالتاء بدل الميم بكرة وأصيلا
5
- أي دائما أو قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم وعنوا بذلك أنها تملي عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال وهذه جراءة عظيمة منهم قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون وعن الحسن أن اكتتبها الخ من قول الله عز و جل يكذبهم به وإنما يستقيم أن لو افتتحت الهمزة في اكتتبها للإستفهام الذي هو في معنى الإنكار ووجه أن يكون نحو قول حضرمي بن عامر وقد خرج يتحدث في مجلس قوم وهو في حلتين له فقال جزء بن سنان بن مؤلة : والله إن حضرميا لجذل بموت أخيه إن ورثه : أفرح أن أرزأ الكرام وأن أورث زودا شصايصا نبلا من أبيات وحق للحسن على ما في الكشاف أن يقف على الأولين قل لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية والجلية المعلومة من باب أولى للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض بمجازلتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك كما تزعمون بل هو أمر سماوي أنزله الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف إلا بتوفيق الله تعالى العليم الخبير عليها وإذا أرادوا ببكرة وأصيلا خفية عن الناس ازداد موقع السر حسنا وأما التذييل بقوله تعالى إنه كان غفورا رحيما
6
- فهو للتنبيه على أنهم استوجبوا العذاب على ما هم عليه من الجنايات المحكية لكن أخر عنهم لما أنه سبحانه أزلا وأبدا مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعتين للتأخير فكأنه قيل إنه جل وعلا متصف بالمغفرة والرحمة على الإستمرار فلذلك لا يجعل عقوبتكم على ما أنتم عليه مع كمال استيجابه إياه وغاية قدرته سبحانه عليها ولو لا ذلك لصب عليكم العذاب صبا وذكر الطيبي أن فيه على هذا الوجه معنى التعجب كما في قوله تعالى : لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا
وجوز أن يكون الكلام كناية عن الإقتدار العظيم على عقوبتهم لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة وفي إيثارها تعبير لهم ونعي على فعلهم يعني أنكم فيما أنتم عليه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته المغفرة والرحمة وليس بذاك وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يقال : ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك لأجل

الصفحة 236