كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مغفورة أن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها وأن لا ييأسوا من رحمته تعالى بما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة وهو كما ترى
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام الخ نزلت في جماعة من كفار قريش أخرج ابن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاصي بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه ابن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه و سلم وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم عليه الصلاة و السلام فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك وإن كنت تريد ملكا ملكناك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله عز و جل بيني وبينكم قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضنا عليك فما لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فأنزل الله تعالى في قولهم ذلك وقالوا مال هذا الرسول الخ
وقد سيق هنا لحكاية جنايتهم المتعلقة بخصوص المنزل عليه الفرقان بعد حكاية جنايتهم التي تتعلق بالمنزل وما استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه في محل رفع على الإبتداء والجار والمجرور بعدها متعلق بمحذوف خبر لها وقعت اللام مفصولة عن هذا المجرور بها في خط الإمام وهي سنة متبعة وعتوا بالإشارة والتعبير بالرسول الإستهانة والتهكم وجملة يأكل الطعام حال من الرسول والعامل فيها ما عمل في الجار من معنى الإستقرار وجوز أن يكون الجار والمجرور أي أي شيء وأي سبب لهذا الزاعم أنه رسول حال كونه يأكل الطعام كما نأكل ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما نفعله على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب الذي هو مضمون الجملة الحالية ومن الناس من جوز جعل الجملة استئنافية والأولى ما ذكرنا ومرادهم استبعاد الرسالة المنافية لأكل الطعام وطلب المعاش على زعمهم فكأنهم قالوا : إن صح ما يدعيه فما باله لم نألف حاله حالنا وليس هذا إلا لعمههم وركاكة عقولهم وقصور أبصارهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عليهم السلام عما عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأمور نفسانية أعني ما جبلهم الله تعالى عليه من الكمال كما يشير إليه قوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد واستدل بالآية على إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الدين والصلاح خلافا لمن كرهه لهم

الصفحة 237