كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

للأباطيل التي اجترؤا على التفوه بها وتعجيب منها أي انظر كيف قالوا في حقك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة البعيدة من الوقوع فضلوا فلا يستطيعوا سبيلا
9
- فبقوا متحيرين ضلالا لا يجدون في القدح في نبوتك قولا يستقرون عليه وإن كان باطلا في نفسه فالفاء الأولى سببية ومتعلق ضلوا غير منوي والفاء الثانية تفسيرية أو فضلوا عن طريق الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المفدمات الحقة فالفاء في الموضعين سببية ومتعلق ضلوا منوي ولعل الأول أولى والمراد نفي أن يكون ما أتوا به قادحا في نبوته صلى الله عليه و سلم ونفى أن يكون عندهم ما يصلح للقدح قطعا على أبلغ وجه فإن القدح فيها إنما يكون في القدح بالمعجزات الدالة عليها وما أتوا به لا يفيد ذلك أصلا وأنى لهم بما يفيده
تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا
10
- أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا شيئا خيرا لك مما اقترحوه وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور وكذا في الكشاف وعن مجاهد إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصورا في الدنيا ولا يخفى ما فيه وقيل : المراد إن شاء جعل ذلك في الآخرة ودخلت إن على فعل المشيئة تنبيها على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته تعالى وأنه معلق على محض مشيئته سبحانه وليس لأحد من العباد والعباد على الله عز و جل حق لا في الدنيا ولا في الآخرة والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم ولا يرد كما زعم ابن عطية قوله تعالى بل كذبوا بالساعة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والظاهر أن الإشارة إلى ما اقترحوه من الكنز والجنة وخيرية ما ذكر من الجنة لما فيه من تعدد الجنة وجريان الأنهار والمساكن الرفيعة في تلك الجنان بأن يكون في كل منها مسكن أو في كل مساكن ومن الكنز لما أنه مطلوب لذانه بالنسبة إليه وهو إنما يطلب لتحصيل مثل ذلك وهو أيضا أظهر في الأبهة وأملأ لعيون الناس من الكنز وعدم التعرض لجواب الإقتراح الأول لظهور منافاته للحكمة التشريعية وربما يعلم من كثير من الآيات كذا قيل
وفي إرشاد العقل السليم أن الإشارة إلى ما اقترحوه من أن يكون له صلى الله عليه و سلم جنة يأكل منها وجنات بدل من خيرا محقق لخيريته مما قالوا لأن ذلك كان مطلقا عن قيد التعدد وجريان الأنهار وتعليق ذلك بمشيئته تعالى للإيذان بان عدم الجعل لعدم المشيئة المبنية على الحكم والمصالح وعدم التعرض لجواب الإقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الإقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهم السلام قد أوتوا في الدنيا مع النبوة ملكا عظيما انتهى وهذا الذي ذكره في الإشارة جعله الإمام الرازي قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وما ذكر أولا استظهره أبو حيان وحكاه عن مجاهد وحكى عن ابن عباس أنها إشارة إلى ما عيروا به من أكل الطعام والمشي في الأسواق وقال : إنه بعيد وحكاه الإمام عن عكرمة وكأني بك تختار ما اختاره وصاحب الإرشاد والظاهر أن يجعل مجزوم فيكون معطوفا على محل الجزاء الذي هو جعل وهو جزاء أيضا وقد جيء به جملة استقبالية على الأصل في الجزاء فقد ذكر أهل المعاني أن الأصل في جملتي إن الشرطية أن تكونا فعليتين استقباليتين لفظا كما أنهما مستقبلتان معنى والعدول عن ذلك في اللفظ لا يكون إلا لنكتة

الصفحة 239