كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

يعتبرون بها ويستدلوا بأحوالها على عظيم قدرة الله عز و جل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر
وقوله تعالى : نسقيكم مما في بطونها تفصيل لما فيها من مواقع العبرة وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الأجواف فإن اللبن في الضروع أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها وأيا ما كان فضمير بطونها للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل لا للإناث منها على الإستخدام لأن عموم ما بعده يأباه وقريء بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام
ولكم فيها منافع كثيرة غير ما ذكر من أصوافها وأشعارها وأوبارها ومنها تأكلون
21
- الظاهر أن الأكل على معناه الحقيقي ومن تبعيضية لأن من أجزاء الأنعام ما لا يؤكل وتقديم المعمول للفاصلة أو للحصر الإضافي بالنسبة إلى الحمير ونحوهما أو الحصر باعتبار ما في تأكلون من الدلالة على العادة المستمرة وكان هذا بيان لانتفاعهم بأعيانها وما قبله بيان لانتفاعهم بمرافقها وما يحصل منها ويجوز عندي ولم أر من صرح به أن يكون الأكل مجازا أو كناية عن التعشيش مطلقا كما سمعت قبل أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم
وعليها وعلى الفلك تحملون
22
- في البر والبحر بأنفسكم وأثقالكم وضمير عليها للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل أيضا ويجوز أن يكون لها باعتبار أن المراد بها الإبل على سبيل الإستخدام لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسبة للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة في صيدحه :
سفينة بر تحت خدي زمانها
وهذا مما لا بأس به وأما حمل الأنعام من أول الأمر على الإبل فلا يناسب مقام الإمتنان ولا سياق الكلام وفي الجمع بينهما وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل قيل : وهذا هو الداعي إلى تأخير هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه شروع في بيان إهمال الناس وتركهم النظر والإعتبار فيما عدد سبحانه من النعم وما حاقهم من زوالها وفي ذلك تخويف لقريش
وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه وفي إيرادها إثر قوله تعالى وعليها وعلى الفلك تحملون من حسن الموقع ما لا يوصف وتصديرها بالقسم لإظهار كمال الإعتناء بمضمونها والكلام في نسب نوح عليه السلام وكمية لبثه في قومه ونحو ذلك قد مر والأصح أنه عليه السلام لم تكن رسالته عامة بل أرسل إلى قوم مخصوصين فقال متعطفا عليهم ومستميلا لهم إلى الحق يا قوم اعبدوا الله أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة هود ألا تعبدوا إلا الله وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الإشراك فليست في شيء رأسا وقوله تعالى مالكم من إله غيره استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها و غيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل بلكم أو مبتدأ خبره لكم أو محذوف و لكم للتخصيص والتبيين أي مالكم في الوجود إله غيره تعالى وقريء غيره بالجر اعتبار للفظ إله أفلا تتقون
23
- الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى مالكم من إله

الصفحة 24