كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد وهذا معنى دقيق لم أعلم أن أحدا ذكره وقيل : وصف الثبور بالكثرة باعتبار كثرة الألفاظ المشعرة به فكأنه قيل : لا تقولوا يا ثبوراه فقط وقولوا يا ثبوراه يا هلاكاه يا ويلاه يا لهفاه إلى غير ذلك وهو كما ترى
وقال شيخ الإسلام : وصفه بذلك بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعونه ثبور واحد في حد ذاته لكنه كلما تعلق به دعاء من تلك الأدعية الكثيلرة صار كأنه ثبور مغاير لما تعلق دعاء آخر وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحدا وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدنه مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن ثم قال : وهذا أدل على فظاعة العذاب وهوله من جعل تعدد الدعاء وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانه أو لتعدده بتجدد الجلود كما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير أما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها فلا غاية لهلاكهم فلا يلائم المقام كيف وهم إنما يدعون هلاكا ينهى عذابهم وينجيهم منه فلا بد أن يكون الجواب إقناطا لهم عن ذلك ببيان استحالته ودوام ما يوجب استدعاءه من العذاب الشديد انتهى وتعقب القول بأن وصف الثبور بالكثرة بحسب كثرة الدعاء بأنه لا يناسب النظم وكذا كونه بحسب كثرة الألفاظ المشعرة بالثبور لأنه كان الظاهر أن يقال دعاء كثيرا وأما قوله : وأما ما قيل الخ فهو لا يخلو عن بحث فتأمل
وحكى علي بن عيسى ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك عنه وجوز أن يكون الثبور في الآية من ذلك كأنهم ندموا على ما فعلوا فقالوا : وأصرفاه عن طاعة الله تعالى كما يقال : وأندماه فأجيبوا بما أجيبوا وتقييد النهي والأمر باليوم لمزيد التهويل والتفظيع والتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام المعهودة التي يخلص من عذابها ثبور واحد ويجوز أن يكون ذلك لتذكيرهم بالساعة التي أصابهم ما أصابهم بسبب التكذيب بها ففيه زيادة إيلام لهم وقرأ عمر بن محمد ثبورا بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتح الفاء في المصادر قليل نحو القفول
قل تقريعا لهم وتهكما بهم وتحسيرا على ما فاتهم أذلك إشارة إلى ما ذكر من السعير باعتبار اتصافها بما فصل من الأحوال الهائلة فإنها التي كثيرا ما تقابل بالجنة وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة وقيل : إشارة إلى ما ذكر من الجنة والكنز في قولهم : أو يلقى إليه كنز الخ
وقيل : إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة وكلا القولين لا يعول عليهما لا سيما الأخير أي أذلك الذي ذكر من السعير التي اعتدت لمن كذب بالساعة وشأنها كيت وكيت وشأن أهلها أذيت ذيت خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون أي وعدها المتقون لأن وعد تتعدى لمفعولين وهذا المحذوف هو العائد على الموصول إضافة الجنة إلى الخلد إن كانت نسبة الإضافة معلومة للمدح فإن المدح يكون بما هو معلوم وإن لم تكن معلومة فلا فائدة خلود الجنة ولا يخدشه قوله تعالى : خالدين بعد لأنه للدلالة على خلود أهلها لا خلودها في نفسها وإن تلازما أو أن ذلك للتمييز عن جنات الدنيا وقيل : إن جنة الخلد علم كجنة عدن والمراد بالمتقين المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية أو الثالثة منها فقط ويدل عليه مقابلتهم بالكافرين في النظم الكريم وقيل : يجوز أن يراد الكاملون في التقوى ووعدها إياهم وعد دخولها ابتداء دون

الصفحة 245