كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)

المستفهمين بذلك مما لا ينبغي أن ينكر لا سيما إذا كانوا الملائكة والأنبياء عليهم السلام جيء بالجواب متضمنا ذلك على أتم وجه مشتملا على تحقيق الأمر في منشأ ضلالهم كل ذلك للإعتناء بمراده تعالى من تقريعهم وتبكيتهم ولذا لم يكتفوا في الجواب بهم ضلوا بل افتتحوا بالتسبيح ثم نفوا عن أنفسهم الإضلال على وجه من المبالغة ليس وراءه وراء أفادوا أنهم ضلوا بعد تحقيق ما ينبغي أن يكون ذريعة لهم إلى الإهتداء من تمتيعهم بأنواع النعم وذلك من أقبح الضلال ونبهوا على زيادة قبحه فوق ما ذكر بالتعبير عنه بنسيان الذكر ثم ذكروا منشأ ضلالهم والأصل الأصيل فيه بقولهم وكانوا قوما بورا أما على معنى كانوا في الأنفس الأمر قوما فاسدين وإن شئت قلت هالكين ونحوه مما تقدم فظهروا على حسب ما كانوا لأن ما في نفس الأمر لا يتغير أو على معنى كانوا في العلم التابع للمعلوم في نفسه كذلك فظهروا على حسب ذلك لئلا يلزم الإنقلاب المحال وحاصله أن منشأ ضلالهم فساد استعدادهم في نفسه من غير مدخلية للغير في التاثير فيه وهذا شأن جميع ما هيات الأشياء في أنفسها فإن مدخلية الغير إنما هي في نحو وجودها الخارجي لا غير وإلى هذا ذهب جمع من الفلاسفة والصوفية وشيد أركانه الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في أكثر كتبه مقبولا فلا بأس في تخريج الآية الكريمة عليه فتدبر وقوله تعالى فقد كذبوكم حكاية لاحتجاجه تعالى على العبدة بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن المعبودين عند تمام جوابهم وتوجيهه إلى العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك : قد كذبكم المعبودون أيها الكفرة وقال بعض الأجلة الفاء فصيحة مثلها في قول عباس بن الأحنف : قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا والتقدير هنا قلنا أو قال تعالى إن قلتم أنهم آلهة فقد كذبوكم بما تقولون أي في قولكم على أن الباء بمعنى في وما مصدرية والجار والمجرور متعلق بالفعل والقول بمعنى المقول ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف أي في الذي تقولونه وجوز أن تكون الباء صلة والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب في كذبوكم والمراد بمقوهم أنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا وتعقب بأن تكذيبهم في هذا القول لا تعلق له بما بعده من عدم استطاعتهم للصرف والنصر أصلا وإنما الذي يستتبعه تكذيبهم في زعمهم أنهم آلهتهم وناصروهم وفيه نظر كما سنشير إليه قريبا إن شاء الله تعالى وقيل : الخطاب للمعبودين أي فقد كذبكم العابدون أيها المعبودون في قولكم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء حيث زعموا أنكم آلهة والمراد الحكم على أولئك المكذبين بالكفر على وجه فيه استزادة غيظ المعبودين عليهم وجعله مفرعا عليه ما سيأتي إن شاء الله تعالى
والفاء أيضا فصيحة والجملة جزاء باعتبار الأخبار وقيل : هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفرة في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد وجيء بالكلام ليفرع عليه ما بعد وكلا القولين كما ترى والثاني أبعدهما وقرأ أبو حيوة يقولون بالياء آخر الخروف وهي رواية عن ابن كثير وقنبل والخطاب في كذبوكم للعابدين وضمير الجمع فيه وفي يقولون للمعبودين أي فقد كذبكم أيها العبدة المعبودين بزعمكم بقولهم سبحانك الخ والباء للملابسة أو الإستعانة وفيه أيضا القولان السابقان أي فقد كذبكم أيها المعبودون العبدة بقولهم إنكم آلهة أو فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في التوحيد بقولهم إن هؤلاء المحكي عنهم آلهة

الصفحة 252