كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 18)
والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بالمدينة أم بمكة عام الفتح أم عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار الثاني أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا تثبت الواسطة فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني الثالث أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة وحينئذ يمكن أن تكون هذه الآية مكية بالإصطلاح الثاني وتكون نازلة يوم الفتح يوم حرمت المتعة في المرة الثانية ولا يكون التحريم إلا مرتين ويكون استدلال من استدلوا بها من الصحابة والتابعين وغيرهم على التحريم وإن علموا أن المتعة أحلت بعد الهجرة في بعض الغزوات مما لا غبار عليه وإذا التزم هذا الإصطلاح في مكية جميع السورة المجمع عليها سمعت عن البحر ينحل أشكال حمل الزكاة على الزكاة الشرعية مع فرضيتها بالمدينة بأن يقال : أن أوائل السورة نزلت بعد فريضة الزكاة في المدينة عام الفتح في مكة لأنا نقول : لا شبهة في أنه يمكن كون الآية مكية بالإصطلاح الثاني وكونها نازلة يوم الفتح وكذلك يمكن كون كل السورة أو أغلبها مكيا بذلك الإصطلاح وكل ما بني على ذلك صحيح بناء عليه إلا أن المتبادر من المكي والمدني المعنى المصطلح عليه أولا لأن الإصطلاح الأول أشهر الإصطلاحات الثلاثة كما قاله الجلال السيوطي في الإتقان
فالظاهر من قولهم : إن هذه السورة مكية أنها نزلت قبل الهجرة بل قد صرح الجلال المذكور بأنها إلا ما استثنى منها مما سمعته مكية على الإصطلاح الأول دون الثاني ولا يجزم مثله بذلك إلا عن وقوف فما ذكر مجرد تجويز أمر لا يساعد على ثبوته صريح نقل بل الصريح مساعد على خلافه وهو المرجع فيما نحن فيه
فقد قال القاضي أبو بكر في الإنتصار : إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين وكونهما قد يعرفان بالقياس على ما ذكره الجعبري وغيره مع عدم جدواه ليس بشيء نعم إذا جعل استدلال الصحابي أو التابعي المطلع على إباحة المتعة بعد الهجرة بها قولا باستثنائها عن أخواتها من آيات السورة وحكما عليها بنزولها بعد الهجرة دونهن فالأمر واضح وستطلع أيضا إن شاء الله تعالى على ما يوجب استثناء غير ذلك وبالجملة متى قيل المدار في أمثال هذه المقامات صريح النقل تعين القول بأن الآية مكية بمعنى أنها نزلت قبل الهجرة وأشكل الإستدلال بها على تحريم المتعة بعد تحليلها بعد الهجرة لكون دليل التحليل مخصصا لعمومها ومذهب الأئمة الأربعة جواز تخصيص عموم القرآن بالسنة مطلقا وهو المختار ويحتاج حينئذ إلى دليل غيرها على التحريم وبعد ثبوت الدليل تكون هي دليلا آخر بمعونته وهذا الدليل الأخبار الصحيحة من تحريم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إياها وقد تقدم بعضها وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة و السلام كنت أذنت لكم في الإستمتاع من النساء وقد حرم الله تعالى ذلك إلى يوم القيامة
وأخرج الحازمي بسنده إلى جابر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يطفن في رحالنا فجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنظر إليهن وقال : من هؤلاء النسوة فقلنا : يا رسول الله نسوة تمتعنا منهن فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه وتمعر وجهه وقام فينا خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم نهى عن المتعة فتواعدنا يومئذ الرجال والنساء ولم نعد ولا نعود إليها أبدا وقد روي تحريمها عنه عليه الصلاة و السلام أيضا علي كرم الله تعالى وجهه وجاء ذلك في صحيح مسلم ووقع عل ما قيل إجماع الصحابة على أنها حرام