كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

ونفوا ثانيا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وان لم يخلصهم وأتي بالشافع في سياق النفي جمعا وإن كان حكم هذا الجمع في الاستغراق لمكان من الزائدة حكم المفرد بلا خلاف إنما الخلاف فيما إذا لم تزد من بعد النفي داخلة على الجمع رعاية لما كانوا يأتون به في الاثبات من الجمع
وقال في الكشاف : جمع الشافع لكثرة الشفعاء ووحد الصديق لقلته ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بارهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده رجمة له وحسبه ان لم تسبق له بأكثرهم معرفة وأما الصديق الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فهو أعز من بيض الانوق ويجوز أن يريد بالصديق الجمع أي فانه يطلق عليه لما أنه على زنة المصدر بخلاف الشافع وذكر البيضاوي في توحيد الصديق وجها آخر أيضا وهو أن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء وحاصله أن الواحد في معنى الجمع بحسب العادة فلذا اكتفى به لما فيه من المطابقة المعنوية كما قيل : الناس الف منهمو كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا وقال بعض الكملة : إن ايراد الشافعين بصيغة الجمع لمجرد مصلحة الفاصلة وأما إيراد الصديق مفردا فلأن المقام مقام المفرد ومصلحة الفاصلة حصلت قبله وهو كما ترى وقال سعد افندي لايبعد أن يكون جمع الأول وافراد الثاني إشارة إلى أنه لافرق بين الاستغراقين وفيه أن إيثار صيغة لافادة مسئلة عربية ليس من دأب القرآن المجيد والذي أميل اليه أن الافراد على الأصل والجمع وإن أدى مؤداه على سنن ما كانوا يقولونه ويزعمونه في الدنيا من تعدد الشفعاء ولا يضر في ذلك كون المنفي هنا أعم من المثبت هناك من حيث شموله للاصنام والكبراء والملائكة والانبياء عليهم السلام كما هو المتبادر إلى الفهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة عن ابن جريج أن المعنى فما لنا من شافعين من أهل السماء ولا صديق حميم من أهل الأرض
وزعم بعضهم أنهم عنوا بالشافعين هنا ما عنوا بالمجرمين من كبرائهم وساداتهم وفرعوا النفي على قولهم ما أضلنا الا المجرمون فكأنهم قالوا : سادتنا وكبراؤنا الذين أضلونا مجرمون معذبون مثلنا فلم يقدروا على السعي في نفعنا والشفاعة لنا وفي الكشاف فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين ولا صديق كما نرى لهم أصدقاء فانه لايتصادق في الآخرة إلا المؤمنون قال تعالى الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين أو فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى وكان لهم الأصدقاء من شياطين الانس أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والاصدقاء لاينفعونهم ولا يدفعون عنهم فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق من النفع لأن مالا ينفع حكمه حكم المعدوم انتهى
والظاهر على هذا الأخير أن الكلام كناية عن شدة الأمر بحيث لاينفع فيه أحد ولو ادنى نفع وهو وجه وجيه والوجه الأول لايكاد يتسنى على مذهب المعتزلة الذين لايجوزون الشفاعة في الخلاص من النار بعد دخولها أو قبله لأن الظاهر من قولهم فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبين فما لنا من شافعين يخلصونا من النار كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين يخلصونهم منها فارتضاه الزمخشري لهذا الوجه غريب اللهم إلا أن يقال : المراد التشبيه باعتبار مطلق الشفاعة والمعتزلة

الصفحة 105