كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

يلاقي النبي صلى الله عليه و سلم في معراجه الصنف الأول من الملائكة ويشاهد روح القدس في اليقظة فاذأ اتصلت الروح النبوية بعالمهم عام الوحي الرباني يسمع كلام الله تعالى وهو اعلام الحقائق بالمكالمة الحقيقية وهي الافاضة والاستفاضة في مقام قاب قوسين أو أدنى وهو مقام القرب ومقعد الصدق ومعدن الوحي والهام وكذا إذا عاشر النبي الملائكة الاعلين يسمع صريف أقلامهم والقاء كلامهم وهو كلام الله تعالى النازل في محل معرفتهم وهي ذواتهم وعقولهم لكونهم في مقام القرب ثم إذا نزل عليه الصلاة و السلام إلى ساحة الملكوت السماوي يتمثل له صورة ما عقله وشاهده في لوح نفسه الواقعة في عالم الأرواح القدرية السماوية ثم يتعدى من الاثر إلى الظاهر وحينئذ يقع للحواس شبه دهش ونوم لما أن الروح القدسية لضبطها الجانبين تستعمل المشاعر الحسية لكن لافي الاغراض الحيوانية بل في سبيل السلوك إلى الرب سبحانه فهي تشائع الروح في سبيل معرفته تعالى وطاعته فلا جرم إدا خاطبه الله تعالى خطابا من غير حجاب خارجي سواء كان الخطاب بلا وسطة أو بواسطة الملك واطلع على الغيب فانطبع في فص نفسه النبوية نقش الملكوت وصورة الجبروت تنجذب قوة الحس الظاهر إلى فوق ويتمثل لها صورة غير متفكة عن معناها وروحها الحقيقي لا كصورة الاحلام والخيالات العاطلة عن المعنى فيتمثل لها حقيقة الملك بصورته المحسوسة بحسب ما يحتملها فيرى ملكا على غير صورته التي كانت له في عالم الأمر لأن الأمر إذا نزل صار خلقا مقدرا فيرى صورته الخلقية القدرية ويسمع كلاما مسموعا بعدما كان وحيا معقولا أو يرى لوحا بيده مكتوبا فالموحي اليه يتصل بالملك اولا بروحه العقلي ويتلقى منه المعارف الالهية ويشاهد ببصره العقلي آيات ربه الكبرى ويسمع بسمعه العقلي كلام رب العالمين من الروح الأعظم ثم إدا نرل عن هذا المقام الشامخ الالهي يتمثل له الملك بصورة محسوسة ثم ينحدر إلى حسه الظاهر ثم إلى الهواء وهكذا الكلام في كلامه فيسمع أصواتا وحروفا منظومة مسموعةيختص هو بسماعها دون غيره فيكون كل من الملك وكلامه وكتابه قد تأدى من غيبه الى شهادته ومن باطن سره إلى مشاعره وهذه التأدية ليست من قبيل الانتقال والحركة للملك الموحي من موطنه ومقامه إذ كل له مقام معلوم لايتعداه ولاينتقل عنه بل مرجع ذلك إلى انبعاث نفسي النبي عليه الصلاة من نشأة الظهور ولهذا كان يعرض له شبه الدهش والغشي ثم يرى ويسمع ثم يقع منه الانباء والاخبار فهذا تنزيل الكتاب وانزال الكلام من رب العالمين انتهى
وفيه ما تأباه الاصول الاسلامية مما لايخفى عليك وقد صرح غير واحد من المحدثين والمفسرين وغيرهم بانتقال الملك وهو جسم عندهم ولم يؤول أحد منهم نزوله فيما نعلم أولوا نزول القرآن وانزاله
قال الاصفهاني في أوائل تفسيره : اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله تعالى منزل واختلفوا في معنى الانزال فمنهم من قال : إظهار القرءة ومنهم من قال : إن الله تعالى الهم كلامه جبريل عليه السلام وهو في السماء وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان وفي ذلك طريقتان إحداهما أن النبي صلى الله عليه و سلم أنخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل عليه السلام وثانيتها أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منه والاولى أصعب الحالين انتهى وقال الطيبي : لعل نزول القرآن على الرسول عليه الصلاة و السلام أن يتلقفه الملك تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينرل به الى الرسول ويلقيه عليه

الصفحة 123