كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

وقالوقال القطب في حواشي الكشاف الانزال في اللغة الايواء وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل وكلاهما لايتحققان في الكلام فهو مستعمل بمعنى مجازي فمن قال : القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فانزاله أن توجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ ومن قال : القرآن هو الألفاظ الدالة على المعنى القائم بذأته تعالى فانزاله مجرد اثباته في اللوح المحفوظ وهذا المعنى مناسب لكونه مجازا عن أول المعنيين اللغويين
ويمكن أن يكون المراد بانزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الاثبات في اللوح المحفوظ وهذا مناسب للمعنى الثاني والمراد بانزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيا عليهم انتهى وفيه بحث لايخفى وعندي أن إنزاله إظهاره في عالم الشهادة بعد أن كان في عالم الغيب ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن جميع القرآن نزل به الروح الأمين على قلبه الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا ينافي ما قيل : إن آخر سورة البقرة كلمه الله تعالى بها ليلة المعراج حيث لا واسطة احتجاجا بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسري برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى الى سدرة المنتهى الحديث وفيه فأعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لايشرك من أمته بالله تعالى شيئا المقحمات وأجيب بعد تسليم أن يكون ما ذكر دليلا لذلك يجوز أن يكون قد نزل جبريل عليه السلام بما ذكر أيضا تأكيدا وتقريرا أو نحو ذلك وقد ثبت نزوله عليه السلام بالآية الواحدة مرتين لما ذكر وجوز أن تكون الآية باعتبار الأغلب واعتبر بعضهم كونها كذلك لأمر آخر وهو أن من القرآن ما نزل به اسرافيل عليه السلام وهو ما كان في أول النبوة وفيه أن ذلك لم يثبت أصلا
وفي الاتقان أخرج الامام أحمد في تأريخه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال : أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم النبوة وهو أبن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرءان على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام فنزل عليه القرءان على لسانه عشر سنين أنتهى وهو صريح في خلاف ذلك وإن كان فيه ما يخالف الصحيح المشهور من أن جبريل عليه السلام هو الذي نزل عليه عليه الصلاة و السلام بالوحي من أول الأمر إلا أنه نزل عليه صلى الله عليه و سلم غيره عليه السلام من الملائكة أيضا ببعض الأمور وكثيرا ما ينزلون لتشييع اةيات القرءانية مع جبريل عليه وعليهم السلام
ومن الناس من اعتبر كونها باعتبار الأغلب لأن إنزال جبريل عليه السلام قد لايكون على القلب بناءا على ما ذكره الشيخ محي الدين قدس سره في الباب الرابع عشر من الفتوحات من قوله : إعلم أن الملك يأتي النبي عليه الصلاة و السلام بالوحي على حالتين تارة ينزل بالوحي على قلبه وتارة يأتيه في صورة جسدية من خارج فيلقي ما جاء به إلى ذلك النبي على أذنه فيسمعه أو يلقيه على بصره فيبصره فيحصل له من النظر ما يحصل من السمع سواء
وتعقب بانه لاحاجة إلى ما ذكر وما نقل عن محي الدين قدس سره لايدل على أن نرول الوحي إلى كل نبي يكون على هذين الحالين فيجوز أن يكون نرول الوحي إلى نبينا صلى الله عليه و سلم على الحال الأولى فقط سلمنا دلالته على العموم وأن نزول الوحي إلى نبينا عليه الصلاة و السلام قد يكون بتمثل الملك بناء على بعض الأخبار الصحيحة في ذلك لكن لانسلم أنه يدل على أن نرول الوحي إذا كان الموحى قرآنا يكون على الحال الثانية سلمنا دلالته على ذلك لكن لانسلم صحة جعله مبني لتأويل الآية وكيف يؤول كلام الله تعالى لكلام

الصفحة 124