كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

بعدبعد البعثة وكان على أتم وجه وهذا مشكل عندي بابن الصياد وما كان منه فانهم عدوه عدوه من الكهان وقد صح أنه قال للنبي عليه الصلاة و السلام حين سأله عن أمره : يأتيني صادق وكاذب وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم امتحنه فاضمر له ءاية الدخان وهي قوله تعالى فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين وقال صلى الله عليه و سلم : خبأت لك خبأ فقال ابن الصياد : هو الدخ أي الدخان وهي لغة فيه كما ذهب اليه الجمهور فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : اخسأ فلن تعدو قدرك
وقد قال القاضي كما نقل النووي عنه أيضا : أصح الأقوال أنه لم يهتد من الآية التي أضمرها النبي عليه الصلاة و السلام إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان اليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ويدل عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إخسأ فلن تعدو قدرك أي القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء الى بعض الشيء وما لايبين منه حقيقته ولا يصل به إلى بيان وتحقيق امور الغيب وقد يقال في دفع هذا الاشكال : إن ابن الصياد كان من الضرب الثاني من الكهان وهم الذين تخبرهم الشياطين بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنهم مما قرب أو بعد والصحيح جواز وجودهم بعد البعثة خلافا للمتزلة وبعض المتكلمين حيث قالوا باستحالة وجود هذا الضرب وكذا الضرب السابق آنفا وأنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد أسر إلى بعض أصحابه الذين كانوا معه ما أضمره أو كانت سورة الدخان مكتوبة في يده صلى الله عليه و سلم أو كتب الآية وحدها في يده عليه الصلاة و السلام وكلا القولين الاخيرين حكاهما الداودي عن بعض العلماء كما في شرح صحيح مسلم
وأيا ما كان يكون ابن الصياد قد اخبر بامر طاريء تطلع عليه الشياطين بدون استراق السمع من السماء وليس ذلك من الاطلاع على ما في القلب في شيء ومع ذلك لم يخبر به تاما بل أخبر به على نحو إخبار الكهان السابقين على زمن البعثة الذين هم من الضرب الأول في النقص
ولعل مراد القاضي بقوله : إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها صلى الله عليه و سلم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا القى الشيطان اليهم بقدر ما يخطف الخ تشبيه حاله مع أنه من الضرب الثاني بحمل من تقدمه من الكهان الذين هم من الضرب الأول وإلا لاشكل كلامه هذا مع ما نقلناه عنه أولا كما لايخفى وكأنه يقول برجم المسترقين للسمع قبل البعثة أيضا إلا أنه لم يكن بمثابة ما كان بعد البعثة وقد ذهب إلى هذا جمع من المحدثين
ومن الناس من قال : إن الشيطان إذا خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب ألقى ما يخطفه إلى من تحته قبل أن يدركه الشهاب ثم ان من تحته يوصل ذلك إلى الكاهن ولا يكاد يصح ذلك وقيل : إن ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة بعد البعثة هو ما يسمعونه من الملائكة عليهم السلام في العنان وهو المراد بقوله تعالى يلقون السمع وما هم ممنوعون عنه هو السمع من الملائكة عليهم السلام وهو المراد بقوله تعالى إنهم عن السمع لمعزولون واستدل لذلك بما أخرجه البخاري وابن المنذر عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر في الارض فيسمع الشيطان الكلمة فيقرها في أذن الكاهن كما يقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة ولايخفى أنه ليس في الخبر تعرض للسمع من الملائكة عليهم السلام في السماء بالمعنى المعروف لانفيا ولا إثباتا وقد يختار القول بأن الشياطين إنما منعوا بعد البعثة عن سمع ما يعتد به من علم الغيب من ملائكة السماء أو العنان ومن خطف خطفة يعتد بها من ذلك اتبعه الشهاب وأهلكه ولم يدعه يوصلها بوجه من الوجوه إلى الكهنة وأما سمع مالا يعتد به فقد يقع

الصفحة 142