كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

لهم ويوصلونهإلى الكهنة فيخلطون به من الكذب ما يخلطون فحيث حكم عليهم بالعزل عن السمع أريد بالسمع السمع الكامل المعتد به وحيث حكم عليهم بالقاء السمع أريد بالسمع السمع في الجملة وأذنى ما يصدق عليه أنه سمع والظاهر أن ما حصل لابن الصياد كان من هذا السمع ولا يكاد يعدل عن ذلك ويقال : إنه كان من الضرب الثاني للكهانة إلا أن ثبت أحد الشقوق الثلاثة وفي ثبوت ذلك كلام نعم قوله صلى الله عليه و سلم خبأت ظاهر في أن هناك ما يخبأ في كف أو كم أو نحوهما والآية مالم تكتب لاتكون كذلك ولهذا احتاج القائلون بأنه صلى الله عليه و سلم إنما أضمر له الآية في قلبه إلى تأويل خبأت باضمرت ويمكن أن يقال على بعد : إن الشياطين قد منعوا بعد البعثة عن السمع مطلقا بالشهب المحرقة لهم وارجاع ضمير يلقون إلى الشياطين ضعيف لأن المقام في بيان من يتنزلون عليه لاببيان حالهم أو إلقاء سمعهم بمعنى إصغائهم إلى الملأ الأعلى و أكثرهم بمعنى كلهم والتعبير به للاشارة إلى أن الأكثرية المذكورة كافية في المقصود والمراد يصغون ليسمعوا فلا يسمعون إلا أنه أقيم وأكثرهم كاذبون مقام يسمعون أو إلقاء السمع بمعنى إلقاء ما يسمعه الناس من الافاكين إليهم ولا يلزم من ذلك أن يكونوا سمعوه من الملائكة عليهم السلام إذ يجوز أن يكونوا اخترعوه من عند أنفسهم ظنا وتخمينا وألقوه إلى أوليائهم ولا يبعد صدقهم في بعضه والأمر في تسميته مسموعا حين وما ورد في حديث الصحيحين وابن مردويه محمول على ما كان قبل البعثة ويقال : إنهم كانوا يسمعون في الجملة وقد يحمل ما في الآية على ذلك وإليه ذهب بعضهم وحمل خطف الكلمة فيه على حدسها بواسطة بعض الاوضاع الفلكية ونحو ذلك ليجوز اعتبار كونه بعد البعثة مما لا أظن أحدا يرتضيه وليس في قصة ابن الصياد ما هو نص في أن ما قاله كان عن سمع من الملائكة عليهم السلام ألقاه الشيطان إليه وكأني بك تستبعد تحدث الملائكة عليهم السلام في السماء بما أضمره صلى الله تعالى عليه وسلم وصعود الشياطين حين السؤال من غير ريث واستراقهم ونزولهم في أسرع وقت بما أجاب به ابن الصياد وما هو الاضرب من ضروب الكهانة
وتحقيق أمرها على ما ذكره الفاضل عبد الرحمن بن خلدون أن للنفس الانسانية استعدادا للانسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الاتقياء بما فطروا عليه من ذلك ولايحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الافعال البدنية كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور ويعطي التقسيم العقلي إن ههنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل وهو صنف من البشر مفطور على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالارادة عند من يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه فيتشبث لاعمال الحيلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالاجسام الشفافة وعظام الحيوان وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان ويديم ذلك الاحساس والتخيل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الادراك هي الكهانة ولكون هذ النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان ادراكها الجزئيات أكثر من ادراكها الكليات وتكون مشتغلة بها غافلة عن الكليات ولذلك كثيرا ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة وهي لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في ادراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة

الصفحة 143