كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

ليشتغلليشتغل به عن الحواس ويقوى في الجملة على ذلك الانسلاخ الناقص فيهجس في قلبه من تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذف على لسانه وبما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم أمر نقصه بأجنبي عن ذات المدارك ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعا ويكون غير موثوق به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصا على الظفر بالادراك بزعمه وتمويها على السائلين ولما كان انسلاخ النبي عليه الصلاة و السلام عن البشرية واتصاله بالملأ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي كان صادقا في جميع ما يأتي به وكان الصدق من خواص النبوة ولهذا قال صلى الله عليه و سلم لابن الصياد حين سأله كاشفا عن حاله بقوله عليه الصلاة و السلام كيف يأتيك هذا الأمر فقال : يأتيني صادق وكاذب : خلط عليك الأمريريد عليه الصلاة و السلام نفي النبوة عنه بالاشارة إلى أنها مما لايعتبر فيه الكذب بحال وإنما قيل : أرفع أحوال هذا الصنف السجع لأن معين السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات وتدل خفة المعين على قرب ذلك الانسلاخ والاتصال والبعد فيه عن العجز في الجملة ولا انحصار لعلوم الكهان فيما يكون من الشياطين بل كما تكون من الشياطين تكون من أنفسهم بانسلاخها انسلاخا غير تام واتصالها في الجملة بواسطة بعض الأسباب بعالم لاتحجب عنه الحوادث المستقبلة وغيرها فانقطاع خبر السماء بعد البعثة عن الشياطين بالرجم إن سلم لايدل على انقطاع الكهانة
ثم ان هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فانهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة ولا يصدهم عن الايمان ويدعوهم إلى العناد إلا وساوس المطامع بحصول النبوة لهم كما وقع لأمية ابن ابي الصلت فانه كان يطمع أن يكون نبيا وكذا وقع لابن الصياد ومسيلمة وغيرهما وربما تنقطع تلك الاماني فيؤمنون أحسن ايمان كما وقع لطليحة الأسدي وقارب بن الاسود وكان لهما في الفتوحات الاسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الايمان وذكر في بيان استعداد بعض الاشخاص أعم من أن يكونوا كهانا أو غيرهم للاخبار بالامور الغيبية قبل ظهورها كلاما طويلا حاصله أن النفس الانسانية ذات روحانية ولها بذاتها الادراك من غير واسطة لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها لأن الحواس أبدا جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الادراك الجسماني وربما تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إما بالخاصة التي هي للانسان على الاطلاق مثل النوم أو بالخاصة الموجودة في بعض الاشخاص كالكهنة أهل السجع وأهل الطرق بالحصى والنوى والناظرين في الاجسام الشفافة من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وقد يلحق بهم المجانين أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية فتلتفت حينئذ إلى الذؤات التي فوقها من الملأ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود وتلك الذوات ادراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علما وربما وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المتعادة ثم تراجع الحس بما أدركت اما مجردا أو في قوالبه فتخبر به انتهى ولايخفى أن فيه ذهابا إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى وكثيرا ما يسمونه عالم المجردات وقد يسمونه عالم العقول وهي محصورة في المشهور عنهم في عشرة ولا دليل لهم على هذا الحصر ولذا قال بعض متأخريهم بانها لاتكاد تحصى وللمتكلمين والمحققين من السلف في ذلك كلام لايتسع هذا الموضع لذكره وأنا أقول ولاينكره الا جهول : لله عز و جل

الصفحة 144