كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

لمكان جملة واحدة فانه لو قصد ذلك لتدافعا إذ يكون المعنى لولا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية وقيل : عبر بذلك للدلالة على كثرة المنزل في نفسه ونصب جملة على الحال و واحدة على أنه صفة مؤكدة له أي هلا أنزل القرآن عليه عليه الصلاة و السلام دفعة غير مفرق كما أنزلت التوراة والانجيل والزبور على ما تدل عليه الأحاديث والآثار حتى كاد يكون اجماعا كما قال السيوطي ورد على من أنكر ذلك من فضلاء عصره فتقول ابن الكمال إن التوراة أنزلت منجمة في ثماني عشرة سنة ويدل عليه نصوص التوراة ولا قاطع بخلافه من الكتاب والسنة ناشيء من نقصان الاطلاع
وهذا الاعتراض مما لا طائل تحته لأن الاعجاز مما لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد منها ما ذكره الله تعالى بعد وقيل : إن شاهد صحة القرآن اعجازه وذلك ببلاغته وهي بمطابقته لمقتضى الحال في كل جملة منه ولا يتيسر ذلك في نزوله دفعة واحدة فلا يقاس بسائر الكتب فان شاهد صحتها ليس الاعجاز
وفيه أن قوله : ولا يتيسر الخ منوع فانه يجوز أن ينزل دفعة واحدة مع رعاية المطابقة المذكورة في كل جملة لما يتجدد من الحوادث الموافقة لها الدالة على أحكامها وقد صح أنه نزل كذلك الى السماء الدنيا فلو لم يكن هذا لزم كونه غير معجز فيها ولا قائل به بل قد يقال ان هذا أقوى في اعجازه والبليغ يفهم من سياق الكلام ما يقتضيه المقام فافهم كذلك لنثبت به فؤادك استئناف وارد من جهته تعالى لرد مقالتهم وبيان بعض الحكم في تنزيله تدريجيا ومحل الكاف نصب على أنها صفة لمصدر مؤكد لمضمر معلل بما بعده وجوز نصبها على الحالية وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي تنزيلا مثل ذلك التنزيل الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه لاتنزيلا مغايرا له أو نزلناه مماثلا لذلك التنزيل لنقوي به فؤادك فان في تنزيله مفرقا تيسيرا لحفظ النظم وفهم المعاني وضبط الكلام والوقوف على تفاصيل ما روعي فيه من الحكم والمصالح وتعدد نزول جبريل عليه السلام وتجدد اعجاز الطاعنين فيه في كل جملة مقدار أقصر سورة تنرل منه ولذلك فوائد غير ما ذكر أيضا منها معرفة الناسخ المتأخر نزوله من المنسوخ المتقدم نزوله المخالف لحكمه ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية فانه يعين على معرفة البلاغة لأنه بالنظر إلى الحال يتنبه السامع لما يطابقها ويوافقها إلى غير ذلك وقيل : قووله تعالى كذلك من تمام كلام الكفرة والكاف نصب على الحال من القرآن أو الصفة لمصدر نرل المذكور أو لجملة والاشارة إلى تنزيل الكتب المتقدمة ولام لنثبت لام التعليل والمعلل محذوف نحو ما سمعت أولا أي نزلناه مفرقا لنثبت الخ وقال أبو حاتم : هي لام القسم والتقدير والله لنثبتن فحذف النون وكسرت اللام وقد حكي ذلك عن أبو حيان والظاهر أنها عنده كذلك على القولين في كذلك وتعقبه بانه قول في غاية الضعف وكأنه ينحو إلى مذهب الأخفش إن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغى اليه أفئدة الخ وهو مذهب مرجوح وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله تعالى
وقوله تعالى : ورتلناه ترتيلا
23
- عطف على الفعل المحذوف المعلل بما ذكر وتنكير ترتيلا للتفخيم أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا بديعا لايقادر قدره وترتيله تفريقه ءاية بعد ءاية قال النخعي والحسن وقتادة
وقال ابن عباس : بيناه بيانا فيه ترسل وقال السدي : فصلناه تفصيلا وقال مجاهد : جعلنا بعضه إثر بعض وقيل : هو الأمر بترتيل قراءته بقوله تعالى : ورتل القرآن ترتيلا وقيل : قرأناه عليك بلسان جبريل

الصفحة 15