كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوما : يارسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد يقلب قلب عبده وظاهر بعض الآيات يقتضي ذلك أيضا مثل قوله تعالى : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وكون الله تعالى آمنهم من ذلك إن أريد به ما جاء في ضمن تبشيرهم بالجنة فقد صح أن المبشرين بالجنة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخافون من سوء العاقبة مع علمهم ببشارته تعالى إياهم بالجنة ويعلم منه أن الخوف يجتمع مع البشارة ولا يلزم من ذلك عدم الوثوق به عر وجل لأنه احتمال أن يكون هناك شرط لم يظهره الله تعالى لهم للابتلاء ونحوه من الحكم الالهية وإن أريد به ما كان بصريح ءامنتكم من سوء العاقبة كان هذا الاحتمال قائما أيضا فيه يحصل الخوف من ذلك وإن أريد به ما اقتضاه جعله الله تعالى إياهم معصومين من الكفر ونحوه ورد أن الملائكة عليهم السلام جعلهم الله تعالى معصومين من ذلك أيضا وهم يخافون
ففي الأثر لما مكر بابليس بكى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام فقال الله عز و جل لهما : ما يبكيكما قالا : يارب ما نأمن مكرك فقال تعالى : هكذا كونا لاتأمنا مكري ولعل ذلك لأن العصمة عندنا على ما يقتضيه أصل استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء كما في المواقف وشرحه الشريف الشريفي أن لايخلق الله تعالى في الشخص ذنبا وعند الحكماء بناء على ما ذهبوا اليه من القول بالايجاب واعتبار استعداد القوابل ملكة تمنع الفجور وتحصل ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي وهي بكلا المعنيين لاتقتضي استحالة الذنب أما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الأول فلأن عدم خلقه تعالى إياه ليس بواجب عليه سبحانه ليكون خلقه مستحيلا عليه تعالى ومتى لم يكن الخلق مستحيلا عليه تعالى فكيف يحصل الأمن من المكر وأما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الثاني فلأن زوال تلك الملكة ممكن أيضا واقتضاء العلم بالمثالب والمناقب إياها ابتداء وتأكدها بتتابع الوحي ليس من الضرورات العقلية ومتى كان الأمر كذلك لايحصل الامن بمجرد حصول الملكة نعم قال قوم : العصمة تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه وقد يستند اليه من يقول بالأمن ولايخفى أنه لو سلم تمام الاستدلال به على هذا المطلب فهو في حد ذاته غير صحيح
ففي المواقف وشرحه أنه يكذب هذا القول أنه لو كان صدور الذنب ممتنعا لما استحق النبي عليه الصلاة و السلام المدح بترك الذنب إذ لا مدح بترك ما هو ممتنع لأنه ليس بمقدور داخلا تحت الاختيار وأيضا فالاجماع على أن الأنبياء عليهم السلام مكلفون بترك الذنوب مثابون به ولو كان صدور الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك وأيضا فقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى الي يدل على مماثلتهم عليهم السلام لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما لايمتنع صدوره عن سائر البشرية اه وذكر الخفاجي في شرح الشفاء عن ابن الهمام أنه قال في التحرير : العصمة عدم القدرة على المعصية وخلق مانع عنها غير ملجيء ثم قال : وهو مناسب لقول الماتريدي العصمة لاتزيل المحنة أي الابتلاء المقتضي لبقاء الاختيار ومعناه كما في الهداية أنها لاتجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية بل هي لطف من

الصفحة 164