كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

السابقة ولا في الاخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد وقال ابن بحر : انها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليه السلام كما نطق الضب والذراع لرسول الله صلى الله عليه و سلم قال مقاتل : وقد سمع عليه السلام قولها من ثلاثة أميال ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة والمسع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت اليه أو لأن الله تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها الا أن احساس النملة من تلك المسافة بعيد والمشهور عند العرب بالاحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل وأنت تعلم أنه لاضرر في إنكار صحة هذا الخبر وقيل : انه عليه السلام لم يسمع صوتا أصلا وانما فهم ما في نفس النملة الهاما من الله تعالى وقال الكلبي : أخبره ملك بذلك والى أنه لم يسمع صوتا يشير قول جرير : لو كنت أوتيت كلام الحكل علم سليمان كلام النمل فانه أراد بالحكل ما لايسمع صوته وقال بعضهم : كانها لما رأتهم متوجهين الى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها وصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولا له فيكون الكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية
وأنت تعلم أنه لاضرورة تدعو إلى ذلك ومن تتبع أحوال النمل لايستبعد أن تكون له نفس ناطقة فانه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس فانه يقطع الواحدة منها أربع قطع ولايكتفي بشقها نصفين لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق وهذا وأمثاله يحتاج إلى علم كلي استدلالي وهو يحتاج إلى نفس ناطقة وقد برهن شيخ الاشراف على ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وظواهر الآيات والأخبار الصحيحة تقتضيه كما سمعت قديما وحديثا فلا حاجة بك إلى أن تقول : يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق في النملة إذ ذاك النطق وفيما عداها من النمل العقل والفهم وأما اليوم فليس في النمل ذلك ثم إنه ينبغي أن يعلم أن الظاهر أن علم النملة بأن الآتي هو سليمان عليه السلام وجنوده كان عن الهام منه عز و جل وذلك كعلم الضب برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين تكلم معه وشهد برسالته عليه الصلاة و السلام والظاهر أيضا أنها كانت كسائر النمل في الجثة وفيه اليوم ما يقرب من الذبابة ويسمى بالنمل الفارسي وبالغ بعض القصاص في كبرها ولا يصح له مستند
وفي بعض الآثار أنها كانت عرجاء واسمها طاخية وقيل : جرمي وفي البحر اختلف في أسمها العلم ما لفظه وليت شعري من الذي وضع لها لفظا يخصها أبنو آدم أم النمل انتهى والذي يذهب إلى أن للحيوانات نفوسا ناطقة لايمنع أن تكون لها أسماء وضعها بعضها لبعض لكن لا بالالفاظ كألفاظنا بل بأصوات تؤدى على نحو مخصوص من الأداء ولعله يشتمل على أمور مختلفة كل منها يقوم مقام حرف من الحروف المألوفة لنا إذا أراد أن يترجم عنها من عرفها من ذوي النفوس القدسية ترجمها بما نعرف ويقرب هذا لك أن بعض كلام الأفرنج وأشباههم لانسمع منه إلا كما نسمع من أصوات العصافير ونحوها وإذا ترجم لنا بما نعرفة ظهر مشتملا على الحروف المألوفة والظاهر أن تاء نملة للوحدة فتأنيث الفعل مراعاة ظاهر التأنيث فلا دليل في ذلك على أن النملة كانت أنثى قاله بعضهم

الصفحة 176