كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

لايعدلايعد قصورا وهذا قريب مما تقدم إلا أنه ليس فيه ما فيه من البشاعة ثم ان الانصاف بعد كل كلام يقتضي الاقرار بقوة دعوى أن المخالفة لضعف صناعة الكتابة إذ ذاك إن صح أنها وقعت أيضا في غير الامام من المكاتبات وغيرها ولعله لم يصح والا لنقل فتأمل والله تعالى يتولى هداك فمكث غير بعيد الظاهر أن الضمير للهدهد و بعيد صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل : ما مضى من غيبته بعد التهديد فقيل : مكث غير بعيد أي مكث زمانا غير مديد ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على اسراعه خوفا من سليمان عليه السلام وليعلم كيف كان الطير مسخرا له وقيل : الضمير لسليمان وهو كما ترى وقيل : بعيد صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان وجعله صفة الزمان أولى ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهدا واسمه فيما قيل عفير واقعا فانحط اليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس وذهب معه لينظر فما رجع الا بعد العصر وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : علي به فارتفعت فنظرت فاذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال : بحق الله الذي قواك وأقدرك علي الا رحمتني فتركته وقالت ثكلتك أمك إن نبي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال : وما استثنى قالت : بلى قال : أو ليأتينني بسلطان مبين فقال : نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا فلما دنا منه أخذ برأسه فمده اليه فقال : يا نبي الله تعالى اذكر وقوفك بين يدي الله عز و جل فارتعد سليمان وعفا عنه وعن عكرمة أنه إنما عفا عنه لأنه بارا بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما ثم سأله : فقال أحطت بما لم تحط به أي علما ومعرفة وحفظته من جميع جهاته وابتداء كلامه بذلك لتريجه عنده عليه السلام وترغيبه في الاصغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فان النفس للاعتذار المنبيء عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل وأيد ذلك بقوله وجئتك من سبأ بنبأ يقين
22
- حيث فسر ابهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه السلام أنه كان بصدد اقامة خدمة مهمة له حيث عبد عما جاء به بالنبأ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه وقال الزمخشري : إن الله تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والاحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ليتحاقر اليه نفسه ويصغر اليه علمه ويكون لطفا به في ترك الاعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى وتعقب بأن ما أحاط به من ألأمور المحسوسة التي لاتعد الاحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف ادراكها الا على مجرد احساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وماذا صدر عنه عليه السلام مع ما حكي عنه ما حكي من الحمد والشكر والدعاء حتى يليق بالحكمة الالهية تنبيههعليه السم على تركه واعترض بان قوله : أحطت الخ ظاهر في أنه كلام مدل بعلمه مصغر لما عند صاحبه وأن العلم بالامور المحسوسة وإن لم يكن فضيلة إلا أن فقده بالنسبة إلى سليمان عليه السلام وملكه والقاء الريح الاخبار في سمعهيدل على ما يدل وفي التنبيه المذكور تثبيت منه تعالى له عليه السلام على الحمد والشكر وهو مما يناسب دعاؤه السابق بقوله : رب أوزعني أن أشكر نعمتك ولعل الأولى والأظهر مع هذا ما ذكر أولا وسبأ منصرف على أنه لحي من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان

الصفحة 186