كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

رأي سليمان عليه السلام العرش ساكنا عنده قارا على حاله التي كان عليها قال تلقيا للنعمة بالشكر جريا على سنن إخوانه الأنبياء عليهم السلام وخلص عباد الله عز و جل هذا أي الاتيان بالعرش أو حضوره بين يدي في هذه المدة القصيرة وقيل : أي التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات من فضل ربي أي تفضله جل شأنه علي من غير استحقاق ذاتي لي له ولا عمل مني يوجبه عليه سبحانه وتعالى وفي الكلام حذف أي فأتاه به فرآه فلما رآه الخ وحذف ما حذف للدلالة على كمال ظهوره واستغنائه عن الاخبار به وللايذان بكمال سرعة الاتيان به كأنه لم يقع بين الوعد به ورؤيته عليه السلام إياه شيء ما أصلا وفي تقييد رؤيته باستقراره عنده تأكيدا لهذا المعنى لايهامه أنه لم يتوسط بينهما ابتداء الاتيان أيضا كانه لم يزل موجودا عنده فمستقرا منتصب على الحال و عنده متعلق به وهو على ما أشرنا اليه كون خاص ولذا ساغ ذكره وظن بعضهم أنه كون عام فأشكل عليهم ذكره مع قول جمهور النحاة : إن متعلق الظرف إذا كان كونا عاما وجب حذفه فالتزم بعضهم لذلك كون الظرف متعلقا برءاه لابه ومنهم من ذهب كابن مالك إلى أن حذف ذلك أغلبي وانه قد يظهر كما في هذه الآية وقوله : لك العز ان مولاك عز وإن يهن فانت لدى بحبوحة الهون كائن وأنت تعلم أنه يمكن اعتبار ما في البيت كونا خاصا كالذي في الآية وفي كيفية وصول العرش اليه عليه السلام حتى رآه مستقرا عنده خلاف فاخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس أنه قال لم يجر عرش صاحبة سبأ بين السماء والارض ولكن انشقت به الارض فجرى تحت الارض حتى ظهر بين يدي سليمان والى هذا ذهب مجاهد وابن سابط وغيرهما وقيل نزل بين يدي سليمان عليه السلام من السماء وكان عليه السلام اذ ذاك في أرض الشام على ما قيل رجع اليها من صنعاء وبينها وبين مأرب محل العرش نحو مسافة شهرين وعلى القول بانه كان في صنعاء فالمسافة بين محله ومحل العرش نحو ثلاثة أيام وأيا ما كان فقطعه المسافة الطويلة في الزمن القصير أمر ممكن وقد أخبر بوقوعه الصادق فيجب قبوله وقد اتفق البر والفاجر على وقوع ما هو أعظم من ذلك وهو قطع الشمس في طرفة عين آلافا من الفراسخ مع أن نسبة عرش بلقيس إلى جرمها نسبة الذرة إلى الجبل وقال الشيخ الأكبر قدس سره إن آصف تصرف في عين العرش فاعدمه في موضعه وأوجده عند سليمان من حيث لايشعر أحد بذلك إلا من عرف الخلق الجديد الحاصل في كل آن وكان زمان وجوده عين زمان عدمه وكل منهما في آن وكان عين قول آصف عين الفعل في الزمان فان القول من الكامل بمنزلة كن من الله تعالى
ومسألة حصول العرش من اشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه من الايجاد والاعدام فما قطع العرش مسافة ولا زويت له أرض ولا خرقها اه ملخصا وله تتمة ستأتي إن شاء الله تعالى وما ذكره من أنه كان بالاعدام والايجاد مما يجوز عندي وإن لم أقل بتجدد الجواهر تجدد الأعراض عند الاشعري إلا أنه خلاف ظاهر الآية واستدل بها على ثبوت الكرامات
وأنت تعلم ان الاحتمال يسقط الاستدلال وعلل عليه السلام تفضله تعالى بذلك عليه بقوله ليبلوني أي ليعاملني معاملة المبتلى أي المختبر ءأشكر على ذلك بان أراه محض فصله تعالى من غير حول من جهتي

الصفحة 205