كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

وفي بعض الآثار أن الجن خافوا من أن يتزوجها فيرزق منها ولدا يحوز فطنة الانس وخفة الجن حيث كانت لها نسبة اليهم فيضبطهم ضبطا قويا فرموها عنده بالجنون وأن رجلها كحوافر البهائم فلذا اختبرها بهذا وبما يكون سببا في الكشف عن ساقيها ومن لم يقل بنسبتها الى الجن : يقول لعلها رماها حاسد بذلك فأراد عليه السلام اختبارها ليقف على حقيقة الحال ومنهم من يقول ليس ذاك إلا ليقابلها بمثل ما فعلت هي حيث نكرت له الغلمان والجواري وامتحنته عليه السلام بالدرة العذراء والجزعة المعوجة الثقب وكون ذلك في عرشها الذي يبعد كل البعد احضاره مع بعد المسافة وشدة محافظتها له أتم وأقوى ويتضمن أيضا من إظهار المعجزة مالايخفى وهذا عندي ألصق بالقلب من غيره قالت كأنه هو أجابت بما أنبأ عن كمال رجاحة عقلها حيث لم تجزم بانه هو لاحتمال أن يكون مثله بل أتت بكأن الدالة كما قيل على غلبة الظن في اتحاده معه مع الشك في خلافه وليست كأن هنا للدلالة على التشبيه كما هو الغالب فيها
وذكر ابن المنير في الانتصاف ما يدل على أنها تفيد قوة الشبه فقال : الحكمة في عدول بلقيس في الجواب عن هكذا هو المطابق للسؤال إلى كأنه هو عبارة من قوي عنده الشبه حتى شك نفسه في التغاير بين الأمرين وكاد يقول هو هو وتلك حال بلقيس وأما هكذأ هو فعبارة جازم بتغاير الأمرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لاغير فلا تطابق حالها فلذا عدلت عنها إلى ما في النظم الجليل
وأوتينا العمل من قبلها وكنا مسلمين
24
- من تتمة كلامها على ما اختاره جمع من المفسرين كانها استشعرت مما شاهدته اختبار عقلها واظهار معجزة لها ولما كان الظاهر من السؤال هو الأول سارعت إلى الجواب بما أنبأ عن كمال رجاحة عقلها ولما كان إظهار المعجزة دون ذلك في الظهور ذكرت ما يتعلق به ءاخرا وهو قولها : وأوتينا الخ وفيه دلالة على كمال عقلها أيضا ومعناه وأوتينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة بما شاهدناه من أمر الهدهد وما سمعناه من رسلنا اليك من الآيات الدالة على ذلك وكنا مؤمنين من ذلك الوقت فلا حاجة إلى إظهار هذه المعجزة ولك أن تجعله من تتمة ما يتعلق بالاختبار وحاصله لاحاجة إلى الاختبار لأني ءامنت قبل وهدا كاف في الدلالة على كمال عقلي
وجوز أن يكون لبيان منشأ غلبة الظن بأنه عرشها والداعي إلى حسن الأدب في محاورته عليه السلام أي وأوتينا العلم باتيانك العرش من قبل الرؤية أو من قبل هذه الحالة بالقرائن أو الاخبار وكنا من ذلك الوقت مؤمنين والتعبير بنون العظمة جار على سنن تعبيرات الملوك وفيه تعظيم لأمر اسلامها وليس ذاك لارادة نفسها ومن معها من قومها إذ يبعده قوله تعالى وصدها ما كانت تعبد من دون الله وهو بيان من جهته عز و جل لما كان يمنعها من اظهار ما ادعت من الاسلام إلى الآن أي صدها عن إظهار ذلك يوم أوتيت العلم الذئ يقتضيه عبادتها القديمة للشمس فما مصدرية والمصدر فاعل صد وجوز كونها موصولة واقعة على الشمس وهي فاعل أيضا والاسناد مجازي على الوجهين
وقوله تعالى : إنها كانت من قوم كافرين
34
- تعليل لسببية عبادتها المذكورة للصد أي أنها كانت من قوم راسخين في الكفر فلذلك لم تكن قادرة على إظهار اسلامها وهي بين ظرانيهم إلى أن حضرت بين يدي

الصفحة 207