كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

بارشادهم وتذكيرهم ولعل ما قلناه أولى فتدبر
وأيا ما كان فضمير أكثرهم لمن باعتبار معناه وضمير عليه له أيضا باعتبار لفظه واختير الجمع هنا لمناسبة إضافة الأكثر لهم وأفرد فيما قبله لجعلهم في اتفاقهم على الهوى كشيء واحد وقيل : ضمير أكثرهم للكفار لا لمن لأن قوله تعالى عليه ياباه وليس بشيء وضمير الفعلين للأكثر لا لما أضيف اليه وتخصيص الأكثر لأن منهم من سبقت له العناية الأزلية بالايمان بعد الاتخاذ المذكور ومنهم من سمع أو عقل لكنه كابر استكبارا و خوفا على الرياسة وقوله تعالى إن هم إلا كالانعام الخ جملة مستأنفة لتكرير النكير وتأكيده وحسم مادة الحسبان بالمرة والضمير للأكثر أو لمن واكتفى عن ذكر الأكثر بما قبله أي ماهم في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات وانتفاء التدبر بما يشاهدونه من الدلائل البينات إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة بل هم أضل منها سبيلا
44
- لما أنها تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها وتعرف من يحسن اليها ومن يسيء اليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوي إلى معاطنها ومرابضها وهؤلاء لاينقادون لربهم سبحانه وخالقهم ورازقهم ولا يعرفون إحسانه تعالى اليهم من إساءة الشيطان المزين لهم اتباع الشهوات الذي هو عدو مبين ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والمورد العذب الروي ولأنها إن لم تعتقد حقا مستتبعا لاكتساب الخير لم تعتقد باطلا مستوجبا لاقتراف الشر بخلاف هؤلاء حيث مهدوا قواعد الباطل وفرعوا عليها أحكام الشرور ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة على أنفسها لاتتعدى إلى أحد وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنة والفساد وصد الناس عن سنن السداد وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ولأنها غير معطلة لقوة من القوى المودعة فيها بل صارفة لها إلى ما خلقت له فلا تقصير من قبلها في طلب الكمال وأما هؤلاء فهم معطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها واستدل بالآية على أن البهائم لا تعلم ربها عز و جل ومن ذهب إلى أنها تعلمه سبحانه وتسبحه كما هو مذهب الصوفية وجماعة من الناس قال : إن هذا خارج مخرج الظاهر وقيل : المراد إن هم إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بالآيات القرآنية والدلائل الانفسية والآفاقية فان الأنعام كذلك والعلم بالله تعالى الحاصل لها ليس استدلاليا بل هو فطري وكونهم أضل سبيلا من الأنعام من حيث أنها رزقت علما بربها تعالى فهي تسبيحه عز و جل به وهؤلاء لم يرزقوا ذلك فهم في غاية الضلال
وقوله تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل الخ بيان لبعض دلائل التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم والهمزة للتقرير والرؤية بصرية لأنها التي تتعدى بالى وفي الكلام مضاف مقدر حذف وأقيم المضاف اليه مقامه أي ألم تنظر الى ما صنع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات الله عز و جل وكون إلى اسما واحدا الآلاء وهي النعم بعيد جدا وجوز أن تكون علمية وليس هناك مضاف مقدر وتعديتها بالى لتضمين معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك الى أن ربك كيف مد الظل والأول أولى
وذكر بعض الأجلة أنه يحتمل أن يكون حق التعبير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل

الصفحة 25