كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)
لتوفية مقام الامتنان حقه واللام متعلقة بجعل وتقديمها على مفعوليه للاعتناء ببيان كون ما بعد من منافعهم وفي تعقيب بيان أحوال الظل ببيان أحكام الليل الذي هو ظل الأرض من لطف المسلك مالا مزيد عليه أي وهو الذي جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس و جعل النوم الذي يقع فيه غالبا بسبب استيلاء الأبخرة على القوى عادة وقيل : بشم نسيم يهب من تحت العرش ولا يكاد يصح
سباتا راحة للابدان بقطع الأفاعيل التي تكون حال اليقظة وأصل السبت القطع وقيل : يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه على ما قيل وقيل : لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة : مسبوت وإلى هذا ذهب أبو مسلم
وقال أبو حيان : السبات ضرب من الأغماء يعتري اليقظان مرضا فشبه النوم به والسبت الاقامة في المكان فكان النوم سكونا ما وجعل النهار نشورا
74
- أي ذا نشور ينتشر فيه الناس لطلب المعاش فهو كقوله تعالى : وجعلنا النهار معاشا وفي جعله نفس النشور مبالغة وقيل : نشورا بمعنى ناشرا على الاسناد المجازي وجوز أن يراد بالسبات الموت لما فيه من قطع الاحساس أو الحياة وعبر عن النوم به لما بينهما من المشابة التامة في انقطاع أحكام الحياة وعليه قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل وقوله سبحانه : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها وبالنشور البعث أي وجعل النهار زمان بعث من ذلك الثبات أو نفس البعث على سبيل المبالغة وأبى الزمخشري الراحة في تفسير السبات وقال : انه يأباه النشور في مقابلته اباء للعيوف الورد وهو مرنق وكأن ذلك لأن النشور في القرآن لايكاد يوجد بمعنى الانتشار والحركة لطلب المعاش وعلل في الكشف اباء الزمخشري بذلك وبأن الآيات السابقة واللاحقة مع ما فيها من التذكير بالنعمة والقدرة أدمج فيها الدلالة على الاعادة فكذلك ينبغي أن لا يفرق بين هذا وبين أترابها
وكأنه جعل جعل الليل لباسا والنوم فيه سباتا بمجموعه مقابل جعل النهار نشورا ولهذا كرر جعل فيه لما في النشور من معنى الظهور والحركة الناصبة أو معنى الظهور والبعث ولم يسلك في ءاية سورة النبأ هذا المسلك لما لا يخفى وهو الذي أرسل الرياح وقرأ ابن كثير بالتوحيد على ارادة الجنس بأل أو الاستغراق فهو في معنى الجمع موافقة لقراءة الجمهور وقال ابن عطية : قراءة الجمع أوجه لأن الريح متى وردت في القرآن مفردة فهي للعذاب ومتى كانت للمطر والرحمة جاءت مجموعة لأن ريح المطر تتشعب وتتذأب وتتفرق وتأتي لينة من ههنا وههنا وشيئا إثر شيء وريح العذاب تأتي جسدا واحدا لاتتذأب الا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه
وقال الرماني : جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب والصبا والدبور وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور وفي قوله صلى الله عليه و سلم إذا هبت الريح : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا اشارة إلى ما ذكر وأنت تعلم أن في كلام ابن عطية غفولا عن التأويل الذي تتوافق به القرءتان وقد ذكر في البحر أنه لا يسوغ أن يقال في تلك القراءة أنها أوجه من القراءة الأخرى مع أن كلا منها متواتر وأل في الريح للجنس فتعم وما ذكر في التفرقة بين المفرد والمجموع أكثر أو عند عدم القرينة أو في المنكر كما جاء في الحديث وسيأتي ان شاء الله تعالى في سورة الروم ما يتعلق بهذا المبحث