كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

تكون عليه وكيلا وذنب بدلائل القدرة والنعمة والرحمة دلالة على أنهم لاينفع فيهم الاحتشاد وانهم يغمطون مثل هذه النعم ويغفلون عن عظمة موجدها سبحانه وجعلوا كالانعام وأضل وختم بانه ليس لهم مراد إلا كفورا نعمته تعالى قيل : ولو شئنا على معنى أنا عظمناك بهذا الأمر لتستقل باعبائه وتحوز ما ادخر لك من جنس جزائه فعليك بالمجاهدة والمصابرة ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالاباء والمشاجرة وبولغ فيه فجعل حرصه صلى الله عليه و سلم على ايمان هؤلاء المطبوع على قلوبهم طاعة لهم وقيل : فلا تطعهم ومدار السورة على ما ذكره الطيبي على كونه صلى الله تعالى عليه وسلم مبعوثا على الناس كافة لينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا والآية على ما سمعت متعلقة بقوله تعالى أفرأيت إلى آخر الآيات وفيها من التنويه بشأنه عليه الصلاة و السلام ما فيها وليست مسوقة للتأديب كما وهم وقيل : هي متعلقة بما عند على معنى ولو شئنا لقسمنا النذير بينهم كما قسمنا المطر بينهم ولكنا نفعل ما هو الأنفع لهم في دينهم ودنياهم فبعثناك اليهم كافة فلا تطع الخ وفيه من الدلالة على قصور النظر ما فيه
هذا وجوز أن يكون ضمير به عائدا على ترك طاعتهم المفهوم من النهي ولعل الباء حينئذ للملابسة والمعنى وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابسا ترك طاعتهم كأنه قيل : وجاهدهم بالشدة والعنف لابالملائمة والمداراة كما في قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم والاورد عليه أن مجرد ترك الطاعة يتحقق بلا دعوة أصلا وليس فيه شائبة الجهاد فضلا عن الجهاد الكبير وجوز أيضا أن يكون لما دل عليه قوله عز و جل ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا من كونه صلى الله تعالى عليه وسلم نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تلك المجاهدات كلها فكبر من أجل ذلك جهاده وعظم فقيل له عليه الصلاة و السلام : وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة وتعقب بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فائدة فانه بين بنفسه وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للسيف
وأنت تعلم أن السورة مكية ولم يشرع في مكة الجهاد بالسيف ومع هذا لايخفى ما فيه ويستدل بالآية على الوجه المأثور على عظم جهاد العلماء لاعداء الدين بما يوردون عليهم من الادلة وأوفرهم حظا المجاهدون بالقرآن منهم وهو الذي مرج البحرين أي أرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويقال في هذا أمرج أيضا على ما قيل إلا أن مرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد
وأصل المرج كما قال الراغب : الخلط ويقال : مرج أمرهم أي اختلط وسمي المرعى مرجا لاختلاط النبات فيه والمراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح من غير تخصيص ببحرين معينين وهذا رجوع إلى ما تقدم من ذكر الأدلة وقوله تعالى هذا عذب فرات الخ أي شديد العذوبة ووزنه فعال من فرته وهو مقلوب من رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويقمعها وقيل : هو البارد كما في مجمع البيان إما استئناف أو حال بتقدير القول أي يقال فيهما هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وقيل : هي حال من

الصفحة 33