كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

عليه وكيلا إنه عام في كل من مال الى هوى نفسه واتبعه فيما توجه اليه ومن هنا دقق العارفون النظر في مقاصد أنفسهم حتى أنهم إذا أمرتهم بمعروف لم يسارعوا اليه وتأملوا ماذا أرادت بذلك فقد حكي عن بعضهم أن نفسه لم تزل تحسه على الجهاد في سبيل الله تعالى فاستغرب ذلك منها لعلمه أن النفس أمارة بالسوء فامعن النظر فاذا هي ضجرت من العبادة فأرادت الجهاد رجاء أن تقتل فتستريح مما هي فيه من النصب ولم تقصد بذلك الطاعة بل قصدت الفرار منها وقيل في قوله تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ألآية أي ألم تر كيف مد ظل عالم الأجسام ولو شاء لجعله ساكنا في كتم العدم ثم جعلنا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلا بأن كانت محركة لها إلى غايتها المخلوقة هي لأجلها فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد وفي قوله تعالى : ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا إشارة إلى أن كل مركب فانه سينحل إلى بسائطه إدا حصل كماله الأخير وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود وهذا شأن الذاهبين من غيره سبحانه اليه عز و جل وفي قوله ثم جعلنا إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به تعالى على غيره سبحانه كقوله تعالى أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وهذه مرتبة الصديقين
وقوله سبحانه ثم قبضناه كقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه وألا إلى الله تصير الأمور وبوجه آخر الظل حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس تجلي المعرفة من أفق العناية عند صباح الهداية ولو شاء سبحانه لجعله دائما لايزول وإنما يستدل على الذهول بالعرفان وفي قوله تعالى ثم قبضناه إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف وهو الذي جعل لكم الليل لباسا تستترون به عن رؤية الأجانب لكم واطلاعهم على حالكم من التواجد وسكب العبرات والنوم سباتا راحة لأبدانكم من نصب المجاهدات وجعل النهار نشورا تنتشرون فيه لطلب ضرورياتكم وهو الذي أرسل الرياح أي رياح الاشتياق على قلوب الأحباب بشرا بين يدي رحمته من التجليات والكشوف وأنزلنا من سماء الكرم ماء حياة العرفان لنحيي به بلدة ميتا أي قلوبا ميتة ونسقيه مما خلقنا أنعاما وهم الذين غلبت عليهم الصفات الحيوانية يسقيهم سبحانه ليردهم إلى القيام بالعبادات : وأناسي كثيرا وهم الذين سكنوا إلى رياض الانس يسقيهم سبحانه من ذلك ليفطمهم عن مراضع الانسانية إلى المشارب الروحانية ولقد صرفناه أي القرآن الذي هو ماء حياة القلوب بينهم ليذكروا به موطنهم الأصلي فأبى أكثر الناس إلا كفورا بنعمة القرءان وما عرفوا قدرها وهو الذي مرج البحرين بحر الروح وبحر النفس هذا وهو بحر الروح عذب فرات من الصفات الحميدة الربانية وهذاوهو بحر النفس ملح أجاج من الصفات الذميمة الحيوانية وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا فحرام على الروح أن يكون منشأ الصفات الذميمة وعلى النفس أن تكون معدن الصفات الحميدة وذكر أن البرزخ هو القلب وقال ابن عطاء : تلاطمت صفتان فتلاقتا في قلوب الخلق فقلوب أهل المعرفة منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الاقبال وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفة معرضة عن سنن التوفيق وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ليس معها خطاب ولا لها جواب وقيل : البحر العذب إشارة إلى بحر الشريعة وعذوبته لما أن الشريعة سهلة لاحرج فيها ولا دقة في معانيها ولذلك

الصفحة 56