كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

صارت مورد الخواص والعوام والبحر الملح إشارة إلى بحر الحقيقة وملوحته لما أن الحقيقة صعبة المسالك لايكاد يدرك ما فيها عقل السالك والبرزخ إشارة إلى الطريقة فانها ليست بسهلة كالشريعة ولا صعبة كالحقيقة بل بين بين تبارك الذي جعل في السماء بروجا قيل : هو إشارة إلى أنه سبحانه جعل في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي إثنا عشر التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والاخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منارل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة ورهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا بغير فخر ولا خيلاء لما شاهدوا من كبرياء الله تعالى وجلاله جل شأنه
وذكر بعضهم أن هؤلاء العباد يعاملون الأرض معاملة الحيوان لا الجماد ولذا يمشون عليها هونا وإذا خاطبهم الجاهلون وهم أبناء الدنيا قالوا سلاما أي سلامة من الله تعالى من شركم أو إذا خاطبهم كل ما سوى الله تعالى من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم وتعرض لهم ليشغلهم عما هم فيه قالوا سلاما سلام متاركة وتوديع والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما لما علموا أن الصلاة معراج المؤمن والليل وقت اجتماع المحب بالحبيب نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليل هزتني اليك المضاجع أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل جامع والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إشارة إلى مزيد خوفهم من القطيعة والبعد عن محبوبهم وذلك ما عنوه بعذاب جهنم لا العذاب المعروف فان المحب الصادق يستعذبه مع الوصال ألا تسمع ما قيل : فليت سليمى في المنام ضجيعتي في جنة الفردوس أو في جهنم والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقروا إشارة الى أن فيوضاتهم حسب قابلية المفاض عليه لايسرفون فيها بأن يفيضوا فوق الحاجة ولا يقترن بأن يفيضوا دون الحاجة أو إلى أنهم إذا أنفقوا وجودهم في ذات الله تعالى وصفاته جل شأنه لم يبالغوا في الرياضة الى حد تلف البدن ولم يقتروا في بذل الوجود بالركون الى الشهوات والذين لايدعون مع الله إلها آخر برفع حوائجهم إلى الأغيار ولايقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق أي الا بسطوة تجلياته تعالى ولايزنون بالتصرف في عجوز الدنيا ولا ينالون منها شيئا إلا باذنه تعالى والذين لايشهدون الزور لايحضرون مجالس الباطل من الأقوال والأفعال وإذا رموا باللغو وهو مالايقربهم الى محبوبهم مروا كراما معرضين عنه والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا بل أقبلوا عليها بالسمع والطاعة مشاهدين بعيون قلوبهم أنوار ما ذكروا به من كلام ربهم والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا من ازدوج معنا وصحبنا وذرياتنا الذي أخذوا عنا قرة أعين بأن يوفقوا للعمل الصالح واجعلنا للمتقين إماما وهم الفائزون بالفناء والبقاء الأتمين اولئك يجزون الغرفة وهو مقام العندية بما صبروا في الداية على تكاليف الشريعة وفي الوسط على التأدب بآداب الطريقة وفي النهاية على ما تقتضيه الحقيقة ويلقون

الصفحة 57