كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر وقال الأخفش والفراء يقال بخع يبخع بخعا أي أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك وقال الكسائي : بخع الأرض بالزراعة جعلها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة قال الزمخشري وتبعه المطرزي : اصل البخع أن تبلغ بالذبح البخاع بكسر الباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح ولم يطلع على ذلك ابن الأثير مع مزيد بحثه ولا ضير في ذلك
وقرأ زيد بن علي وقتادة رحمهم الله تعالى باخع نفسك بالاضافة على خلاف الأصل فان الأصل في أسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل أن يعمل على ما أشار اليه سيبويه في الكتاب وقال الكسائي : العمل والاضافة سواء وذهب أبو حيان إلى أن الاضافة أحسن من العمل ولعل في مثل هذا الموضع لاشفاق المتكلم ولما استحال في حقه سبحانه جعلوه متوجها إلى المخاطب ولما كان غير واقع منه أيضا قالوا المراد الأمر به لدلالة الانكار المستفاد من سوق الكلام عليه فكأنه قيل : أشفق على نفسك أو تقتلها وجدا وحسرة على ما فاتك من اسلام قومك وقال العسكري : هي في مثل هذا الموضع موضوعة موضع النهي والمعنى لاتبخع نفسك وقيل : وضعت موضع الاستفهام والتقدير هل أنت باخع وحكى مثله عن ابن عطية إلا أنه قال : المراد الانكار أي لاتكن باخعا نفسك ألا يكونوا مؤمنين
3
- تعليل للبخع ولما لم يصح كون عدم كونهم في المستقبل مؤمنين كما يفيد ظاهر الكلام علة لذلك لعدم المقارنة والعلة ينبغي أن تقارن المعلول قدروا خيفة فقالوا : خيفة أن لايؤمنوا بذلك الكتاب المبين ومن الأجلة من لم يقدر ذلك بناء على أن المراد لاستمرارهم على عدم قبول الايمان بذلك الكتاب لأن كلمة كان للاستمرار وصيغة الاستقبال لتأكيده وأريد استمرار النفي وجوز أن يكون الكون بمعنى الصحة والمعنى لامتناع ايمانهم والقول بأن فعل الكون أتي به لأجل الفاصلة ليس بشيء
وقوله تعالى إن نشأ الخ استئناف لتعليل الأمر باشفاقه على نفسه صلى الله عليه و سلم أو النهي عن البخع ومفعول المشيئة محذوف وهو على المشهور ما دل عليه مضمون الجزاء وجوز أن يكون مدلولا عليه بما قيل أي إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الايمان قاسرة عليه كما نتق الجبل فوق بني إسرائيل وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر
وقرأ أبو عمرو في رواية هرون عنه إن يشأ ينزل على الغيبة والضمير له تعالى وفي بعض المصاحف لو شئنا لأنزلنا فظلت أعناقهم لها خاضعين
4
- أي منقادين وهو خبر عن الأعناق وقد أكتسبت التذكير وصفة العقلاء من المضاف اليه فاخبر عنها لذلك بجمع من يعقل كما نقله أبو حيان عن بعض علماء العربية
واختصاص جواز مثل ذلك الشعر كما حكاه السيرافي عن النحويين مما لم يرتضيه المحققون ومنهم أبو العباس وهو ممن خرج الآية على ذلك وجوز أن يكون ذلك لما أنها وصفت بفعل لايكون إلا مقصودا للعاقل وهو الخضوع كما في قوله تعالى رأيتهم لي ساجدين وأن يكون الكلام على حذف مضاف وقد روعي بعد حذفه أي أصحاب أعناقهم ولا يخفى أن هذا التقدير ركيك مع الاضافة إلى ضميرهم وقال الزمخشري :

الصفحة 59