كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

أصلأصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الاعناق لبيان موضع الخضوع لأن يتراءى قبل التأمل لظهور الخضوع في العنق بنحو الانحناء أنه هو الخاضع دون صاحبه وترك الجمع بعد الاقحام على ما كان عليه قبل وقال الكسائي : إن خاضعين حال للضمير المجرور لا للاعناق
وتعقبه أبو البقاء فقال : هو بعيد في التحقيقلأن خاضعين يكون جاريا على غير فاعل ظلت فيفتقر إلى إبرار ضمير الفاعل فكان يجب أن يكون خاضعين هم فافهم وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد والأخفش : الاعناق الجماعات يقال : جاءني عنق من الناس أي جماعة والمعنى ظلت جماعتهم أي جملتهم
وقيل : المراد بها الرؤساء والمدمون مجازا كما يقال لهم : رؤوس وصدور فيثبت الحكم لغيرهم بالطريق الأولى وظاهر كلامهم أن إطلاق العنق على الجماعة مطلقا رؤساء أم لا حقيقة وذكر الطيبي عن الاساس أن من المجاز أتاني عنق من الناس للجماعة المتقدمة وجاؤا رسلا رسلا وعنقا عنقا والكلام يأخذ بعضه باعناق بعض ثم قال : يفهم من تقابل رسلا رسلا لقوله : عنقا عنقا أن في إطلاق الاعناق على الجماعات اعتبار الهيئة المجتمعة فيكون المعنى فظلوا خاضعين مجتمعين على الخضوع متفقين عليه لايخرج أحد منهم عنه
وقرأ عيسى وابن أبي عبلة خاضعة وهي ظاهرة على جميع الاقوال في الاعناق بيد أنه إدا أريد بها ما هو جمع العنق بمعنى الجارحة كان الاسناد اليها مجازيا ولها في القرءتين صلة ظلت أو الوصف والتقديم للفاصلة أو نحو ذلك لا للحصر وظلت عطف على ننزل ولابد من تأويل احد الفعلين بما هو من نوع الآخر لأنه وإن صح عطف الماضي على المضارع إلا أنه هنا غير مناسب فانه لايترتب الماضي على المستقبل بالفاء التعقيبية أو السببية ولا يعقل ذلك والمعقول عكسه وبتأويل أحد الفعلين يدفع ذلك لكن اختار بعضهم تأويل ظلت بتظل وكأن العدول عنه اليه ليؤذن الماضي بسرعة الانفعال وأن نزول اةية لقوة سلطانه وسرعة ترتب ما ذكر عليه كأنه كان واقعا قبله وبعضهم تأويل ننزل بأنزلنا ولعل وضعه موضعه لاستحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الايمان وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السماع لتعجب منه فتأمل
وقرأ طلحة فتظل بفك الادغام والجرم ضعف الحريري في درة الغواص الفك في مثل ذلك ورجح صاحب الكشف القراءة بانها أبلغ لافادة الماضي ما سمعته ءانفا هذا والظاهر أنه لم يتحقق انزال هذه الآية لأن سنة الله تعالى تكليف الناس بالايمان من دون الجاء نعم إدا قيل : المراد ءاية مذلة لهم كما روي عن قتادة جاز أن يقال بتحقق ذلك ولعل ما روي عن ابن عباس كما في البحر والكشاف من قوله نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ستكون عليهم الدولة فتذل أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة ناظر إلى هذا وعن أبي حمزة الثمالي أن الآية صوت يسمع من السماء في نصف شهر رمضان وتخرج له العواتق من البيوت وهذا قول بتحقق الانزال بعد وكأن ذلك زمان المهدي رضي الله تعالى عنه ومن صحة ما ذكر من الأخبار في القلب شيء والله تعالى أعلم
وقوله تعالى : وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين
5
- بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم كما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة تأكيدا لصرف رسول الله

الصفحة 60